فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (187)

{ يسألونك } استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم والسائلون هم اليهود وقيل قريش { عن الساعة } أي القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو لأنها ساعة عند الله مع طولها في نفسها { أيان } ظرف زمان مبني على الفتح ومعناه متى واشتقاقه من أي وقيل من أين { مرساها } أي أيّ وقت إرساؤها واستقرارها وحصولها وكأنه شبهها بالسفينة القائمة في البحر مأخوذ من أرساها الله أي أثبتها .

وقرئ بفتح الميم من رست أي ثبتت ومنه وقدور راسيات ومنه رسى الجبل ، والمعنى متى يثبتها ويوقعها ويرسيها الله ، ؟ وقال الطيبي : الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة وإطلاقه على الساعة تشبيه للمعاني بالأجسام ، وقال ابن عباس : منتهاها أي وقوعها ، قال : والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق ، وظاهر الآية أن السؤال عن نفس الساعة ، وظاهر أيان مرساها أن السؤال عن وقتها فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك .

ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله : { قل إنما علمها } أي علم وقت إرسائها باعتبار وقوعها { عند ربي } قد استأثر به لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية { لا يجليها } التجلية إظهار الشيء يقال جلى لي فلان الخبر إذا أظهره وأوضحه أي لا يظهرها ولا يكشف عنها ، وقال مجاهد : لا يأتي بها ، وقال السدي : لا يرسلها { لوقتها إلا هو } سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين .

وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها ، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها مبينة لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها .

{ ثقلت في السماوات والأرض } أي عظمت على أهلهما وشقت على العالم العلوي والسفلي ، قيل معنى ذلك أنه لما خفي علمها على أهل السماوات والأرض كانت ثقيلة لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب ، وقيل المعنى لا تطيقها السماوات والأرض لعظمها لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب ، وقيل عظم وصفها عليهم ، وقيل ثقلت المسألة عنها .

وقال ابن عباس : يعني ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقيل ثقلت لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على الأفئدة ، وقيل كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ويتمنى أن يتجلى له علمها ويشق عليه خفاؤها وثقل عليه ، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أيضا .

{ لا تأتيكم } الساعة { إلا بغتة } أي فجأة على حين غفلة من الخلق ، وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة صحيحة هي معروفة وهذه كالتي قبلها في التقرير .

{ يسألونك كأنك حفي عنها } استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على زعمهم أنه عالم بالمسؤول عنه ، قال ابن فارس : الحفي العالم بالشيء والحفي المستقصي في السؤال يقال أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف وحفي على التكثير مثل مخضب وخضيب ، والمعنى يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها أو كأنك مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه ومتطلع إلى علم مجيئها وعن بمعنى الباء .

وقيل المعنى كأنك حفي بهم ، والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي ، قال ابن عباس : يقول كأنك بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم .

{ قل إنما علمها عند الله } أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب به عليهم سابقا لتقرير الحكم وتأكيده ، قال في المدارك : وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلو عن فائدة انتهى .

وقيل ليس بتكرير بل أحدهما معناه استئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها وثقلها وشدائدها .

{ ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله وأنه استأثر به حتى لا يسألوا عنه وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفي علم وقت قيامها عن الخلق{[806]} .


[806]:- روى البخاري 13/ 77 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" وهو جزء من حديث طويل، يدل على أن الساعة تأتي بغتة. وقوله: "يليط حوضه" بفتح أوله من الثلاثي، وبضمه من الرباعي، والمعنى: يصلحه بالطين والمدر، فيسد شقوقه، ليملأه ويسقي منه دوابه.