قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } الآية .
الأول : لمَّا تكلم في التَّوحيد ، والنُّبَّوةِ ، والقضاء ، والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة .
الثاني : لمَّا قال في الآية المتقدمة : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 185 ] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات .
قال ابنُ عباس : إنَّ قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية{[17051]} .
وقال الحسن وقتادة : إن قريشاً قالوا يا محمد : بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة{[17052]} ؟
قال الزمخشريُّ : السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا ، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة ؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضي فيها في ساعة واحدة ، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ .
قوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } فيه وجهان : أحدهما : أنَّ أيَّانَ خبر مقدم ، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر ، والثاني : أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع ل " مُرْسَاهَا " بالفاعليَّةِ ، وهو مذهب أبي العباس ، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال ، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ ؛ لأنها بدل [ من ] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال : والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة . إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحل أنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل ، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ ب " عَنْ " فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض ، كأنَّهُ قيل : يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب ، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه : عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو .
و " أيَّانَ " ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام ، ولا يتصرَّفُ ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف " متى " فإنَّها يليها النَّوعان ، وأكثرُ ما يكون [ أيَّان ] استفهاماً ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
أيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا *** أمَا تَرَى لِفعْلِهَا إبَّانَا{[17053]}
وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين .
أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا *** لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً{[17054]}
إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ *** فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ{[17055]}
والفَصِيحُ فتح همزتها ، وهي قراءة العامَّة .
وقرأ السُّلمي{[17056]} بِكسْرِهَا ، وهي لغة سُلَيْم .
واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة ؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس ، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ .
واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا ؟ فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من " أوَيْتُ إليه " ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل ، والمعنى : أي وقت ، وأي فعلٍ ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون وزنه فَعَّالاَ مشتقةً من : " أين " ؛ لأنَّ " أيْنَ " ظرف مكان ، وأيَّان ظرفُ زمانٍ . ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، وأن يكون اسم زمان .
وقال الزمخشريُّ : مُرْسَاهَا إرساؤُهَا ، أو وقت إرسائها : أي : إثباتها وإقرارها .
قال أبو حيَّان : وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ ، لأنه يكون التقدير : في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ .
ويقال : رَسَا يَرْسُو : أي ثبت ، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل ، نحو : رَسَت السفينةُ تَرْسُوا وأرْسَيْتها ، قال تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 32 ] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ؛ لقوله { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء .
قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول ، والظَّرف خبره أي : أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره .
وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها . والتَّجَلّي هو الظهور .
وقال مجاهد : لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ{[17057]} نظيره قوله تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] وقوله { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " متى السَّاعةُ .
فقال : " ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ " {[17058]}
قال المحققون : والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر ، فيكون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية ؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة ، وأخرها ، وكذلك إخفاء ليلة القدر ؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة ، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ ؛ ليكون المكلف مُجِدّاً في الدُّعاءِ في كل اليوم .
قوله : " فِي السَّمواتِ " يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون " في " بمعنى " على " أي : على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض ، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي ، وهو قولُ الحسنِ .
والثاني : أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ ، والمعنى : حصل ثقلها ، وهو شدَّتها ، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين .
قال الأصَمُّ : إن هذا اليوم ثقيل جدّاً على السمواتِ والأرض ؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب .
وقيل : ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث ، والحساب ، والسُّؤال ، والخوف .
وقال السُّديُّ : ثقل علمها ، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها .
قوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة ، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها .
روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما بيْنَهُما ، فلا يتبايَعانِه ، ولا يطْويانِهِ ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه ، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا " {[17059]} .
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول : " يَسْألُونكَ " وفي عَنْهَا وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلقة ب يَسْألُونَكَ و : " كأنَّكَ حَفِيٌّ " معترض ، وصلتها محذوفةٌ تقديره : خَفِيّ بها .
وقال أبُو البقاءِ : في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل ، فإنَّ قوله { كأنَّكَ حَفِيٌّ } حال كما تقدَّم .
والثاني : أنَّ " عَنَ " بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 259 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى ب " عن " بل بالباء كقوله : { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب " عن " أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها .
والحَفِيُّ : المستقصي عن الشَّيء ، المهتبلُ به ، المعني بأمره ؛ قال : [ الطويل ]
سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ *** بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ{[17060]}
فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا *** لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا{[17061]}
فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ *** حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا{[17062]}
والإحْفَاءُ : الاستقصاء ؛ ومنه إحفاء الشَّوارب ، والحافي ؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر .
قال الزمخشريُّ : وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ .
قال أبو عبيدة : وهو من قولهم : تحفى بالمسألةِ أي : استَقْصَى ، والمعنى : فإنَّكَ أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها ، وقيل الحفاوةُ : البرُّ واللُّطْفُ .
قال ابن الأعْرابِي : يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً . والتَّحفي : الكلام واللِّقاء الحسن ، قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي بارّاً لطيفاً يجيب دعائي . ومعنى الآية على هذا : [ يسألونك ] كأنَّك بارّ بهم لطيف العشرة معهم ، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ{[17063]} ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره : إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة ؟ فقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك صديق لهم بارّ ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم .
وقرأ عبدُ الله{[17064]} حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ " عَنْ " بمعنى الباء ، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى : مفعول أي : مَحْفُوٌّ .
وقيل : بمعنى فعل ، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها .
قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } .
اعلم أن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا } سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ .
وقوله ثانياً : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار ، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } وأجاب عن الثَّانِي بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } والفرق بين الصورتين : أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة . والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها .
وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا : الله .
فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة ، وهو قولنا : اللَّهُ ، ثم ختم الآية بقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون أن القيامة حقٌّ ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد .
وقيل : لا يَعْلَمُونَ بأنِّ أخبرتك بأنَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ .
وقيل : لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ .