مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (187)

قوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك عنها أنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون }

اعلم أن في نظم الآية وجهين : الأول : أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبعه بالكلام في المعاد ، لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة . الثاني : أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم }5 ] باعثا بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده : { يسألونك عن الساعة } ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق ، فيصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في أن ذلك السائل من هو ؟ قال ابن عباس : إن قوما من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن وقتادة : إن قريشا قالوا : يا محمد بيننا وبينك قرابة ، فاذكر لنا متى الساعة ؟

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة ، أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق .

المسألة الثالثة : أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء ، وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى ، وفي اشتقاقه قولان : المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال : { أيان } سؤال عن الزمان ، وأين سؤال عن المكان ، فكيف يكون أحدهما مأخوذا من الآخر . والثاني : وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه ، لأن معناه أي وقت ولفظة أي ، فعل من أويت إليه ، لأن البعض آو إلى مكان الكل متساندا إليه هكذا . قال ابن جني : وقرأ السلمي ( إيان ) بكسر الهمز .

المسألة الرابعة : مرساها «المرسي » ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى : { بسم الله مجراها ومرساها } أي إجراؤها وإرساؤها ، والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا ، إذا ثبت . قال تعالى : { والجبال أرساها } فكان الرسو ليس اسما لمطلق الثبات ، بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلا ومنه إرساء الجبل ، وإرساء السفينة ، ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ، بدليل قوله : { ثقلت في السموات والأرض } لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء .

ثم قال تعالى : { قل إنما علمها عند ربي } أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه : { إن الله عنده علم الساعة } وقوله : { إن الساعة آتية لا ريب فيها } وقوله : { إن الساعة آتية أكاد أخفيها } ولما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : متى الساعة فقال عليه السلام : ( ليس المسئول عنها بأعلم من السائل )

قال المحققون : والسبب في إخفاء الساعة عن العباد ؟ أنهم إذا لم يعلموا متى تكون ، كانوا على حذر منها ، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة ، وأزجر عن المعصية ، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال : { لا يجليها لوقتها } التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره ، والمعنى : لا يظهرها في وقتها المعين { إلا هو } أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو .

ثم قال تعالى : { ثقلت في السموات والأرض } والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى : { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } وأيضا وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } ووصف عذابها بالشدة فقال : { وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }

إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين في تفسير قوله : { ثقلت في السموات والأرض } وجوه : قال الحسن : ثقل مجيئها على السموات والأرض ، لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض ، وتبطل الجبال والبحار ، وقال أبو بكر الأصم : إن هذا اليوم ثقيل جدا على أهل السماء والأرض ، لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب . وقال قوم : إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد . وقال السدي : { ثقلت } أي خفيت في السموات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها . وقال قوم : { ثقلت في السموات والأرض } أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض ، وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله ، فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم .

ثم قال : { لا تأتيكم إلا بغتة } وهذا أيضا تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الساعة تفجأ الناس ، فالرجل يصلح موضعه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقوم بسلعته في سوقه . والرجل يخفض ميزانه ويرفعه » وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك »

ثم قال تعالى : { يسألونك كأنك حفي عنها } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في الحفي وجوه : الأول : الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي : يقال حفي بي حفاوة وتحفى بي تحفيا ، والحفي الكلام واللقاء الحسن ، ومنه قوله تعالى : { إنه كان بي حفيا } أي بارا لطيفا يجيب دعائي إذا دعوته ، فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي ، ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشا قالت لمحمد عليه السلام : إن بيننا وبينك قرابة ، فاذكر لنا متى الساعة . فقال تعالى : { يسألونك كأنك حفي عنها } أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم .

والقول الثاني : { حفي عنها } أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها ، وعلى هذا القول { حفي } فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال ، ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه ، قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة ، أي استقصى . فقوله : { كأنك حفي عنها } أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها . قال صاحب «الكشاف » : هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وإحفاء البقل استئصاله ، وأحفى في المسألة إذا ألحف ، وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به ، وعلى هذا التقدير : فالقولان الأولان متقاربان .

المسألة الثانية : في قوله : { عنها } وجهان : الأول : أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير : يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله : «بها » لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه . والثاني : أن يكون التقدير : يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود { كأنك حفي بها } .

المسألة الثالثة : قوله : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانيا : { يسألونك كأنك حفي عنها } سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها ، فلم يلزم التكرار :

أجاب عن الأول بقوله : { إنما علمها عند ربي } .

وأجاب عن الثاني بقوله : { إنما علمها عند الله } والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعا عن وقت قيام الساعة . والسؤال الثاني كان واقعا عن مقدار شدتها ومهابتها ، وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة ، وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وفيه وجوه : أحدها : ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق .