المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

19- هذان فريقان من الناس تنازعوا في أمر ربهم ، وما يليق به ، وما لا يليق ، فآمن به فريق ، وكفر فريق ، فالذين كفروا أعد الله لهم يوم القيامة ناراً تحيط بهم من كل جانب ، كما يحيط الثوب بالجسد ، ولزيادة تعذيبهم تصب الملائكة على رءوسهم الماء الشديد الحرارة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

قوله تعالى :{ هذان خصمان اختصموا في ربهم } أي : جادلوا في دينه وأمره ، والخصم : اسم شبيه بالمصدر ، فلذلك قال : { اختصموا } بلفظ الجمع كقوله : { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } واختلفوا في هذين الخصمين .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا يعقوب بن إبراهيم ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين برزوا يوم بدر : حمزة وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة ، وشيبة ابني أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة . وأخبرنا عبد الواحد ، أنبأنا أحمد ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي قال : أنبأنا أبو مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن علي بن أبي طالب قال : " أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة " . قال قيس : وفيهم نزلت : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . قال محمد بن إسحاق : خرج -يعني يوم بدر- عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة : عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار ، فقالوا حين انتسبوا : أكفاء كرام ، ثم نادى مناديهم : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب ، فلما دنوا قالوا : من أنتم ؟ فذكروا ، فقالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة ، وعلي الوليدبن عتبة واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه ، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه ، وقد قطعت رجله ومخها يسيل ، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال : بلى ، فقال عبيدة : لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول :

ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقال ابن عباس و قتادة : نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتاباً ، ونبينا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسداً ، فهذه خصومتهم في ربهم . وقال مجاهد و عطاء بن أبي رباح و الكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا . وقال بعضهم : جعل الأديان ستة في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية ، فجعل خمسة للنار وواحداً للجنة ، فقوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم . وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا .

كما أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد حسين القطان ، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغزاتهم . قال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط ، فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً . ثم بين الله عز وجل ما للخصمين فقال : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس مذاب ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه وسمي باسم الثياب لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب . وقال بعضهم : يلبس أهل النار مقطعات من النار ، { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } الحميم : هو الماء الحار الذي انتهت حرارته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :

هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .

إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .

هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .

ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !

ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .

وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

ثبت في الصحيحين ، من{[20079]} حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر{[20080]} .

لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :

حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة . قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . انفرد به البخاري{[20081]} .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم . فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم . فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } . وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس .

وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث . وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون .

وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة .

وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل . وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار .

قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي .

{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } . { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة .

وقال سعيد [ بن جبير ]{[20082]} هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وكذلك تذوب{[20083]} جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط .

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد{[20084]} ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن{[20085]} حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت{[20086]} ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان " .

ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك{[20087]} ، وقال : حسن صحيح . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب

بها رأسه ، فَيُفرغ{[20088]} دماغه ، ثم يُفرغ{[20089]} الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }


[20079]:- في ت : "عن".
[20080]:- صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033).
[20081]:- صحيح البخاري برقم (4744).
[20082]:- زيادة من ف ، أ.
[20083]:- في ف : "يذوب".
[20084]:- في ت ، ف : "زيد".
[20085]:- في ت : "أبي".
[20086]:- في أ : "فيسلت".
[20087]:- تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582).
[20088]:- في ت ، ف : "فيقرع".
[20089]:- في ت : "يقرع".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

{ هذان خصمان } أي فوجان مختصمان . ولذلك قال : { اختصموا } حملا على المعنى ولو عكس لجاز ، والمراد بهما المؤمنون والكافرون . { في ربهم } في دينه أو في ذاته وصفاته . وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود : نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحق بالله آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت . { فالذين كفروا } فصل لخصومتهم وهو المعني بقوله تعالى : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قطعت لهم } قدرت لهم على مقادير جثثهم ، وقرىء بالتخفيف . { ثياب من نار } نيران تحيط بهم إحاطة الثياب . { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } حال من الضمير في { لهم } أو خبر ثان ، والحميم الماء الحار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ} (19)

مقتضى سياق السورة واتصال آي السورة وتتابعها في النزول أن تكون هذه الآيات متصلة النزول بالآيات التي قبلها فيكون موقع جملة { هذان خصمان } موقع الاستئناف البياني . لأن قوله { وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] يثير سؤال من يسأل عن بعض تفصيل صفة العذاب الذي حقّ على كثير من الناس الذين لم يسجدوا لله تعالى ، فجاءت هذه الجملة لتفصيل ذلك ، فهي استئناف بياني . فاسم الإشارة المثنى مشير إلى ما يفيده قوله تعالى : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من انقسام المذكورين إلى فريقين أهل توحيد وأهل شرك كما يقتضيه قوله : { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18 ] من كون أولئك فريقين : فريق يسجد لله تعالى ، وفريق يسجد لغيره . فالإشارة إلى ما يستفاد من الكلام بتنزيله منزلة ما يشاهد بالعين ، ومثلها كثير في الكلام .

والاختصام : افتعال من الخصومة ، وهي الجدل والاختلاف بالقول يقال : خاصمه واختصما ، وهو من الأفعال المقتضية جَانبين فلذلك لم يسمع منه فعل مجرد إلا إذا أريد منه معنى الغلب في الخصومة لأنه بذلك يصير فاعله واحداً . وتقدم قوله تعالى : { ولا تكن للخائنين خصيماً } في [ سورة النساء : 105 ] . واختصام فريقي المؤمنين وغيرهم معلوم عند السامعين قد ملأ الفضاءَ جلبتُه ، فالإخبار عن الفريقين بأنهما خصمان مسوق لغير إفادة الخبر بل تمهيداً للتفصيل في قوله { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } .

فالمراد من هذه الآية ما يعمّ جميع المؤمنين وجميع مخالفيهم في الدّين .

ووقع في « الصحيحين » عن أبي ذرّ : أنه كان يُقسِم أنَّ هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبيه عليّ بن أبي طالب وعتبةَ بن الحارث الذين بارزوا يوم بدر شَيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليدَ بن عتبة .

وفي « صحيح البخاري » عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة . قال قيس بن عُبادة : وفيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } . قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي ، وحمزة ، وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة . وليس في كلام عليّ أنّ الآية نزلت في يوم بدر ولكن ذلك مدرج من كلام قيس بن عُبادة ، وعليه فهذه الآية مدنيّة فتكون { هذان } إشارة إلى فريقين حاضرين في أذهان المخاطبين فنُزّل حضورُ قصتهما العجيبة في الأذهان منزلة المشاهدة حتى أعيد عليها اسم الإشارة الموضوع للمشاهد ، وهو استعمال في كلام البُلغاء ، ومنه قول الأحنف بن قيس : « خرجتُ لأنصر هذا الرجل » يريد عليّ بن أبي طالب في قصة صفّين .

والأظهر أن أبا ذر عنى بنزول الآية في هؤلاء أن أولئك النفر الستة هم أبرز مثال وأشهر فرد في هذا العموم ، فعبر بالنزول وهو يريد أنهم ممن يقصد من معنى الآية .

ومثل هذا كثير في كلام المتقدمين . والاختصام على الوجه الأول حقيقي وعلى الوجه الثاني أطلق الاختصام على المبارزة مجازاً مرسلاً لأن الاختصام في الدين هو سبب تلك المبارزة .

واسم الخصم يطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت خصومتهم كما في قوله تعالى : { وهل أتاك نبأ الخصم إذا تسوروا المحراب } [ ص : 21 ] فلمراعاة تثنية اللفظ أتي باسم الإشارة الموضوع للمثنى ولمراعاة العدد أتي بضمير الجماعة في قوله تعالى : { اختصموا في ربهم } .

ومعنى { في ربهم } في شأنه وصفاته ، فالكلام على حذف مضاف ظاهر . وقرأ الجمهور { هاذان } بتخفيف النون . وقرأه ابن كثير بتشديد النون وهما لغتان .

والتقطيع : مبالغة القطع ، وهو فصل بعض أجزاء شيء عن بقيته . والمراد : قطع شُقّة الثوب . وذلك أنّ الذي يريد اتخاذ قميص أو نحوه يقطع من شقة الثوب ما يكفي كما يريده ، فصيغت صيغة الشدة في القطع للإشارة إلى السرعة في إعداد ذلك لهم فيجعل لهم ثياب من نار . والثياب من النار ثياب محرقة للجلود وذلك من شؤون الآخرة .

والحميم : الماء الشديد الحرارة .