قوله تعالى : { ولا يحزنك قولهم } ، يعني : قول المشركين تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ ، فقال : { إن العزة لله } ، يعنى الغلبة والقدرة لله { جميعا } هو ناصرك ، وناصر دينك ، والمنتقم منهم . قال سعيد بن المسيب : إن العزة لله جميعا يعني : عن الله يعز من يشاء ، كما قال في آية أخرى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون-8 ] ، وعزة الرسول والمؤمنين بالله فهي كلها لله .
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي [ ص ] وهو أولى الأولياء ، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين ، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه :
( ولا يحزنك قولهم . إن العزة لله جميعاً . هو السميع العليم ) . .
ويفرد الله بالعزة هنا ، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه . فيفرده بالعزة جميعاً - وهي أصلاً لله وحده ، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعاً ، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس . أما الرسول [ ص ] فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه . فلا يحزن لما يقولون . والله معه وهو السميع العليم . الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَحْزُنْكَ } قولُ هؤلاء المشركين ، واستعن بالله عليهم ، وتوكل عليه ؛ فإن العزة لله جميعا ، أي : جميعها له ولرسوله وللمؤمنين ، { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم . {[14328]}
{ ولا يحزنك قولهم } إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم . وقرأ نافع { يحزنك } من أحزنه وكلاهما بمعنى . { إن العزة لله جميعا } استئناف بمعنى التعليل ويدل عليه القراءة بالفتح كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم . { هو السميع } لأقوالهم . { العليم } بعزماتهم فيكافئهم عليها .
وقوله : { ولا يحزنك } الآية ، هذه آية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، المعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم ، أي قول كفار قريش ، ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك ، ثم ابتدأ بوجوب { إن العزة لله جميعاً } ، أي فهم لا يقدرون على شيء ولا يؤذونه إلا بما شاء الله وهو القادر على عقابهم لا يعازه شيء ، ففي الآية وعيد لهم ، وكسر { إن } في الابتداء ولا ارتباط لها بالقول المتقدم لها ، وقال ابن قتيبة لا يجوز فتح «إن » في هذا الموضع وهو كفر .
قال القاضي أبو محمد : وقوله هو كفر غلو ، وكأن ذلك يخرج على تقدير لأجل أن العزة لله{[6158]} ، وقوله : { هو السميع } أي لجميع ما يقولونه { العليم } بما في نفوسهم من ذلك ، وفي ضمن هذه الصفات تهديد .
الجملة معطوفة على جملة { ألا إن أولياء الله لا خَوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] عطف الجزئي على الكلي لأن الحزن المذكور هنا نوع من أنواع الحزن المنفي في قوله : { ولا هُم يحزنون } [ يونس : 62 ] ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع لأن دفع هذا الحزن يتفرع على ذلك النفي ولكن عُدل إلى العطف بالواو ليعطي مضمون الجملة المعطوفة استقلالاً بالقصد إليه فيكون ابتداء كلام مع عدم فوات معنى التفريع لظهوره من السياق . والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشىء عن أذى المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم . ووجه الاقتصار على دحضه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزناً إلا أذى القول البذئي .
وصيغة { لا يحزنك قولهم } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وظاهر صيغته أنه نهي عن أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم كلام المشركين ، مع أن شأن النهي أن يتوجه الخطاب به إلى من فعل الفعل المنهي عنه ، ولكن المقصود من مثل هذا التركيب نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يتأثر بما شأنه أن يُحزن الناس من أقوالهم ، فلما وجه الخطاب إليه بالنهي عن عمل هو من عمل غيره تعين أن المراد بذلك الكناية عن نهيه هو عن حصول ذلك الحزن في نفسه بأن يصرف عن نفسه أسبابه وملزوماته فيؤول إلى معنى لا تترك أقوالهم تُحزنك ، وهذا كما يقولون : لا أريَنَّك تفعل كذا ، ولا أعرفنَّك تفعل كذا ، فالمتكلم ينهى المخاطب عن أن يراه المتكلم فاعلاً كذا . والمراد نهيه عن فعل ذلك حتى لا يراه المتكلم فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم . والمعنى : لا تفعلن كذا فأراك تفعله . ومعنى { لا يحزنك قولهم } لا تحزن لقولهم فيحزنك .
ومعلوم أن أقوال المشركين التي تحزن النبي هي أقوال التكذيب والاستهزاء ، فلذلك حذف مفعول القول لأن المصدر هنا نزل منزلة مصدر الفعل اللازم .
وجملة : { إن العزة لله جميعاً } تعليل لدفع الحزن عنه ، ولذلك فصلت عن جملة النهي كأنَّ النبي يقول : كيف لا أحزن والمشركون يتطاولون علينا ويتوعدوننا وهم أهل عزة ومنعَة ، فأجيب بأن عزتهم كالعدم لأنها محدودة وزائلة والعزة الحق لله الذي أرسلك . وهي أيضاً في محل استئناف بياني . وكل جملة كان مضمونها علة للتي قبلها تكون أيضاً استئنافاً بيانياً ، فالاستئناف البياني أعم من التعليل . وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بها ، ولأنَّه يفيد مفاد لام التعليل وفاء التفريع في مثل هذا المقام الذي لا يقصد فيه دفع إنكار من المخاطب .
ويحسن الوقف على كلمة { قولهم } لكي لا يتوهم بعض من يسمع جملة { إنّ العزة لله جميعاً } فيحسبه مقولاً لقولهم فيتطلب لماذا يكونُ هذا القول سبباً لحزن الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم من قولهم : { إنّ العزّة لله } وإن كان في المقام ما يهدي السَّامع سريعاً إلى المقصود .
ونظير هذا الإيهام ما حكي أنّ ابن قتيْبة ( وهو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة ) ذكر قراءة أبي حيْوة { أنّ العزّة لله } بفتح همزة ( أن ) وأعرب بدلاً من ( قولُهم ) فحكم أنّ هذه القراءة كُفر . حكى ذلك عنه ابن عطيَّة . وأشار إلى ذلك في « الكشاف » فقال : « ومن جعله بدلاً من ( قولُهم ) ثم أنكره فالمنكر هو تخريجه » .
ولعل ابن قتيبة أراد أن كسر الهمزة وإن كان محتملاً لأن تكون الجملة بعدها معمولة ل { قولهم } لأن شأن ( إن ) بعد فعل القول أن لا تكون بفتح الهمزة لكن ذلك احتمال غير متعيَّن لأنَّه يحتمل أيضاً أن تكون الجملة استئنافاً ، والسياق يعيّن الاحتمال الصحيح .
فأمَّا إذا فتحت الهمزة كما قرأ أبو حَيْوَة فقد تعيَّنت أن تكون معمولة لما ذكر قبلها وهو لفظ { قولُهم } ولا محمل لها عنده إلا أنها أي المصدر المنسبك . منها بدل من كلمة { قولهم } ، فيصير المعنى : أنّ الله نهى نبيئه عن أن يحزن من قول المشركين { العزةُ لله جميعاً } وكيف وهو إنَّما يدعوهم لذلك . وإذ كان النهي عن شيء يقتضي تجويز تلبس المنهي بالشيء المنهى عنه اقتضى ذلك تجويز تلبس النبي عليه الصلاة والسلام بالحَزن لمن يقول هذا القول وهذا التجويز يؤول إلى كفر من يجوزه على طريقة التكفير باللازم ، ومقصده التَّشنيع على صاحب هذه القراءة .
وإنَّما بنى ابن قتيبة كلامه على ظاهر لفظ القرآن دون تقدير حرف قبل ( أنّ ) لعلَّه راعى أنّ التقدير خلاف الأصل أو أنَّه غير كاف في دفع الإيهام . فالوجه أنّ ابن قتيبة هوّل ما له تأويل ، ورد العلماء عليه رد أصيل .
والتَّعريف في { العزّة } تعريف الجنس المفيد للاستغراق بقرينة السِّياق .
واللام في قوله : { لله } للملك . وقد أفاد جعل جنس العزة ملكاً لله أنّ جميع أنواعها ثابت لله ، فيفيد أنّ له أقوى أنواعها وأقصاها . وبذلك يفيد أنّ غير الله لا يملك منها إلاّ أنواعاً قليلة ، فما من نوع من أنواع العزة يوجد في مِلك غيره فإن أعظم منه من نوعه ملك لله تعالى . فلذلك لا يكون لما يملكه غير الله من العزة تأثير إذا صادم عزة الله تعالى ، وأنه لا يكون له تأثير إلا إذا أمهله الله ، فكل عزّة يستخدمها صاحبها في مناواة من أراد الله نصره فهي مدحوضة مغلوبة ، كما قال تعالى : { كتب الله لأغلبنّ أنا ورُسلي إنّ الله قوي عزيز } [ المجادلة : 21 ] وإذ قد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم أنّ الله أرسله وأمره بزجر المشركين عمَّا هم فيه كان بحيث يؤمن بالنصر إذا أعلمه الله بأنه مراده ، ويعلم أنّ ما للمشركين من عزة هو في جانب عزة الله تعالى كالعدم .
و { جميعاً } حال من { العزّة } موكّدة مضمونَ الجملة قبلها المفيدَ لاختصاصه تعالى بجميع جنس العزّة لدفع احتمال إرادة المبالغة في ملك ذلك الجنس .
وجملة : { هو السَّميع العليم } مستأنفة وإجراء هذا الخبر على اسم الجلالة الواقع ركناً في الجملة التعليلية يجر معنى التعليل إلى هذه الجملة فتفيد الجملة تعليلاً آخر أو تكملة للتعليل الأوّل ، لأنه إذا تذكر المخاطب أنّ صاحب العزة يعلم أقوالهم وأحوالهم زاد ذلك قوة في دفع الحُزن مِن أقوالهم عن نفسه لأنّ الذي نهاه عن الحزن من أقوالهم وتطوالهم أشد منهم قوة ومحيط علمه بما يقولونه وبأحوالهم . فهو إذا نهاك عن الحزن من أقوالهم ما نهاك إلا وقد ضمن لك السَّلامة منهم مع ضعفك وقوتهم لأنه يمدُّك بقوته وهو أعلم بتكوين أسباب نصرك عليهم .
والمراد ب { السميع } العالم بأقوالهم التي من شأنها أن تسمع ، وب { العليم } ما هو أعم من أحوالهم التي ليست بمسموعات فلا يطلق على العلم بها اسم ( السَّميع ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا يحزنك قولهم} يا محمد، يعني أذاهم،
{إن العزة لله} يعني إن القوة لله، {جميعا} في الدنيا والآخرة،
{هو السميع} لقولهم، {العليم} بهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنك يا محمد قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام فإن العزّة لله جميعا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزّة الدنيا والآخرة لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحد، لأنه لا يعازه شيء. "وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ "يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، محصيّ ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل (قولهم) ما قالوا في الله ما لا يليق به من الولد والشريك؛ يقول: لا يحزنك ذلك (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)
ويحتمل قوله: (ولا يحزنك قولهم) الذي قالوا في القرآن: إنه سحر، وإنه مفترى، أو الذي قالوا في رسول الله: إنه ساحر، وإنه يفتري على الله كذبا.
ويشبه أن يكون قوله: (ولا يحزنك قولهم) مكرهم الذي مكروا به وكيدهم الذي كادوه. ويؤيد ذلك قوله: (إن العزة لله جميعا) أي إن العزة في المكر والكيد لله، وهو كقوله: (وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا) [الرعد: 42]؛ أي مكره ينقض مكرهم ويمنعه، وكيده يفسخ كيدهم.
فعلى ذلك قوله: (إن العزة لله جميعا) أي ينقض جميع ما يمكرون بك، ويكيدون لك. والعزة: القوة. يقول: إن القوة لله؛ ينصرك على أعدائك، يدفع عنك كيدهم ومكرهم الذي هموا بك.
(هو السميع العليم) لقولهم الذي قالوا (العليم) بمصالحهم، أو (السميع) المجيب للدعاء (العليم) بما يكون منهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ظاهر قوله "ولا يحزنك قولهم "ظاهره النهي، والمراد به التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله) عن قولهم الذي يؤذونه به... المراد بالآية: لا تعبأ بالأذى فيمن عني به أذاه.
وقوله "إن العزة لله جميعا"... والعزة: القدرة على كل جبار بالقهر بأن لا يرام ولا يضام... والمعنى: إنه الذي يعزك وينصرك حتى تصير أعز ممن ناوأك. وقوله: "هو السميع العليم" معناه أنه يسمع قولهم ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما تقتضيه حالهم ويدفع عنك شرهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ يَحْزُنكَ}... {قَوْلُهُمْ}: تكذيبهم لك، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك {إِنَّ العزة للَّهِ} استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزّة لله جميعاً، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم {كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، المعنى ولا يحزنك يا محمد ويهمك قولهم، أي قول كفار قريش، ولفظة القول تعم جحودهم واستهزاءهم وخداعهم وغير ذلك. {إن العزة لله جميعاً}، أي فهم لا يقدرون على شيء ولا يؤذونه إلا بما شاء الله وهو القادر على عقابهم لا يعازه شيء، ففي الآية وعيد لهم وقوله: {هو السميع} أي لجميع ما يقولونه {العليم} بما في نفوسهم من ذلك، وفي ضمن هذه الصفات تهديد.
اعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده، لو جوز كونه مؤثرا في حاله، فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر، خرج من أن يكون سببا لحزنه. ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} فإذا كان الله تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق، وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين، كان لا محالة ناصرا له ومعينا، ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له، فقد حصل الأمن وزال الخوف...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء، علم أن المعنى: هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف، فعطف عليه قوله}: ولا يحزنك قولهم {أي في نحو قولهم: إنهم يغلبون، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير! وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله: {إن العزة} أي الغلبة والقهر وتمام العظمة {لله} أي الملك الأعلى حال كونها {جميعاً} أي فسيذلهم ويعز دينه، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به.
ولما بدئت الآية بقولهم، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال: {هو} أي وحده {السميع} أي البليغ السميع لأقوالهم {العليم} أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة! والعزة: قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن بين الله تعالى لرسوله حال أوليائه وصفتهم، وما بشرهم به في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكونه لا تبديل لكلماته فيما بشرهم ووعدهم، كما أنه لا تبديل لهما فيما أوعد به أعداءه المشركين، وكان هذا يتضمن الوعد بنصره ونصر من آمن له، وهم أولياء الله وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكانت العزة -أي القوة والغلبة- في مكة لا تزال للمشركين بكثرتهم التي يعبرون عنها بقولهم: وإنما العزة للكاثر، وكانوا -لغرورهم بكثرتهم وثروتهم- يكذبون بوعد الله، وكان ذلك يحزنه صلى الله عليه وسلم بالطبع كما قال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] الآية قال تعالى مسليا له، ومؤكدا وعده له ولأوليائه/ ووعيده لأعدائهم وأعدائه:
{ولاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} نهاه عن الحزن والغم من قولهم الذي يقولونه في تكذيبه الذي تقدم مفصلا في هذه السورة، فحذف مقول القول للعلم به، وبين له سبب هذا النهي بقوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} أي إن الغلبة والقوة والمنعة لله جميعها، لا يملك أحد من دونه شيئا منها، فهو يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء، وليست للكثرة دائما كما يدعون، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وقد وعد بها رسله والذين آمنوا بهم واتبعوهم من أوليائه، كما قال: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] فعزته تعالى ذاتية له، وعزة رسوله والمؤمنين به ومنه عز وجل، كما قال: {وتعز من تشاء وتذل من تشاء} [آل عمران: 26]...
{هُو السَّمِيعُ} لما يقولون من تكذيب بالحق وادعاء للشرك {الْعَلِيمُ} بما يفعلون من إيذاء وكيد ومكر، فهو يذلهم ويحبط أعمالهم، وهذا استئناف آخر في تقرير مضمون الأول، وهو تسليته صلى الله عليه وسلم، وتأكيد وعده بالعزة، ووعيد تكذيبه، ثم استدل على كون العزة له جميعا والجزاء بيده بقوله مستأنفا أيضا ومفتتحا بأداة التنبيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويفرد الله بالعزة هنا، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين -كما في الموضع الآخر- لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه. فيفرده بالعزة جميعاً -وهي أصلاً لله وحده، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه- ليجرد منها الناس جميعاً، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس. أما الرسول [ص] فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه. فلا يحزن لما يقولون. والله معه وهو السميع العليم. الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد. وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة، وفي عصاة وتقاة، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحزن المنهي عن تطرقه هو الحزن الناشئ عن أذى المشركين محمداً صلى الله عليه وسلم بأقوالهم البذيئة وتهديداتهم. ووجه الاقتصار على دحضه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلقى من المشركين محزناً إلا أذى القول البذئي...
تجيء هذه الآية بعد أن بيّن لنا الله سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار، وإيذاءهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه، وفيما قالوه ما أحزنه صلى الله عليه وسلم؛ لذلك طلب منه الحق سبحانه ألاّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين، فقد قالوا: ساحر، وكاذب، ومفتر، ومجنون، وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم ساحرا فلماذا لم يسحرهم هم أيضا، وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟!
إذن: كذّب قولهم في أنه صلى الله عليه وسلم سحر عبيدهم وأولادهم.
وقالوا: مجنون، ولم يكن في سلوكه صلى الله عليه وسلم أدنى من جنون، وفنّد أقوالهم هذه بقوله سبحانه: {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم 1-2 – 3 -4]:
فالمجنون لا يكون على خلق عظيم أبدا.
وحين قالوا: إنه افترى القرآن، تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال، وعجزوا عن ذلك رغم أنهم مرتاضون للشعر والأدب والبيان.
وقول الحق سبحانه: {ولا يحزنك قولهم} لأن أقوالهم لا حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة؛ لأن {العزة لله جميعا} والعزة هي القوة، والغلبة، ويقال: هذا الشيء عزيز، أي: لا يوجد مثله، وهو سبحانه العزيز المطلق؛ لأنه لا إله إلا هو لا يغلب ولا يقهر...
ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر محدد، هو أنه صلى الله عليه وسلم مهمته هي البلاغ فقط، وليس عليه أن يلزمهم بالإيمان برسالته والتسليم لمنهجه.
وبيّن له الحق سبحانه: أنهم إذا ما صدّوا بعد بلاغك، فلا تحزن مما يقولون؛ فأقوالهم لا يقوم عليها دليل، ولا تنهض لها حجّة، وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل 14]: وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك، وسيتمّ الله نوره، ولا يوجد أعز من الله سبحانه وتعالى، ولن يجير أحد على الله أحدا، فهو سبحانه يجير ولا يجار عليه.
وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة، وقد تكون عزة حجّة، وقد تكون عزة حلف، وقد تكون عزة حكمة، وكل واحد من خلق الله سبحانه قد توجد له عزة مجال ما أو محيط ما، لكن العزة لله سبحانه شاملة مطلقة في كل محيط وفي كل مجال، شاملة لكل شيء وأي شيء...
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك- وهو خالق الخلق- فلن تأتي قضية كونية تناقضها، ولو وجدت-معاذ الله- قضية كونية تناقضها، فالآية لن تكون صادقة. وهذا لم ولن يحدث أبدا مع آيات الحق سبحانه؛ لأنه هو خالق الكون، وهو منزل الآيات؛ فلا يكن أن يحدث تناقض أبدا بين الكون وكلام خالق الكون سبحانه وتعالى...
وقوله الحق سبحانه هنا: {إن العزة لله جميعا} أي: في كل ألوانها هي لله سبحانه وتعالى، إن كانت عزة حكمة فهو الحكيم، وإن كانت عزة القبض على الأمور فهو العزيز، وإن كانت عزة الحلم فهو الحليم، وإن كانت عزة الغضب والانتقام فهو المنتقم الجبّار، وكلّ ألوان العزة لله تعالى: {هو السميع العليم}: وما دامت العزة هي الغلبة والقهر، فالله سبحانه يسمع من يستحق أن يقهر منه، وما دام الأمر فيه قول فهو يجيء بالسمع، وإن كان فيه فعل، فهو يأتي بصفة العليم، فهو السميع لما يقال والعليم بما يفعل.
ونحن نعلم أن المنهّي عنه هنا هو: {ولا يحزنك قولهم}: لذلك كان المناسب أن يقال: {هو السميع} أولا.
ويريد الحق سبحانه أن يدلّل على هذه القضية دلالة كونية في آيات الله تعالى في الكون، وليس في الوجود أو الكون من يقف أمامه سبحانه؛ لذلك لا بد أن نلحظ أن قانون "العزة لله جميعا "محكوم بأن لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66)}: