اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًاۚ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (65)

قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } وههنا تمَّ الكلام ، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة ، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر ، وهو أنَّهُم هدَّدُوه ، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع ؛ فنسعى في قهرك ، وفي إبطالِ أمرك ، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } .

فإن قيل : كيف آمنهُ من ذلك ، ولم يزل خائفاً حتى هاجر ، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ .

فالجواب : أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً ، والوقت ما كان معيَّناً ، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت ؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت ، وقوله : " قَوْلهُم " قيل : حذفت صفته ؛ لفهم المعنى ، إذا التقدير : ولا يحزنك قولهم الدَّال على تكذيبك ، وحذف الصِّفة ، وإبقاء الموصوف قليلٌ ، بخلاف عكسه .

وقيل : بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ .

ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ العزة للَّهِ } العامَّةُ على كسر " إنَّ " ، استئنافاً ، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة .

وقيل : هو جوابُ سؤال مقدَّر ؛ كأنَّ قائلاً قال : لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم ، وهو ممَّا يُحْزِن ؟ فأجيب بقوله : { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } ، ليس لهم منها شيءٌ ، فكيف تبالي بقولهم ؟

والوقف على قوله : " قولهم " ينبغي أن يُعتمد ، ثم يبتدأ بقوله : " إنَّ العزَّة " وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم ، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه ، وقرأ أبو{[18525]} حيوة " أنَّ العزَّة " بفتح " أنَّ " وفيها تخريجان :

أحدهما : أنَّها على حذف لام العلَّة ، أي : لا يحزنك قولهم ؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً .

الثاني : أنَّ " إنَّ " وما في حيِّزها بدلٌ من " قولهم " كأنَّه قيل : ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله ، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ ، أو يجوز القولُ به ، وكيف ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في المعنى ، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب ؟ وأيضاً ؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا ؟ قال الزمخشريُّ : " ومنْ جعله بدلاً من " قولهم " ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه ، لا ما أنكره من القراءة به " . يعني : أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل ، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة ، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه .

قال القاضي : " فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافاً ، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب " .

وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح " إنَّ " في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ .

قال أبو حيَّان : وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ " أنَّ " معمولةٌ ل " قولهم " .

قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل " قَوْلهُم " وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به ، فكيف يتوهَّم ذلك ؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها ، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ .

و " جَمِيعاً " حالٌ من العِزَّة ، ويجوز أن يكون توكيداً ولمْ يُؤنَّثْ بالتَّاء ؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنَّثُ ، لشبهه بالمصادر ، وقد تقدَّم تحريره في قوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .

فصل

قيل : المعنى : إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى - ، يعطي ما يشاء لعباده ، والغرضُ منه : أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه ، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم ، ونظيره : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] .

قال الأصمُّ : المراد : أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم ، ويخوفونك بها ، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى - ، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء ، وينصرك ، وينقل أموالهم وديارهم إليك .

فإن قيل : قوله : { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } كالمُضادَّة لقوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] .

فالجواب : لا مضادَّة ؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله ، فهي لله .

{ هُوَ السميع العليم } أي : يسمع ما يقولون ، ويعلمُ ما يعزمون ، فيُكافئهم على ذلك .


[18525]:ينظر: الكشاف 2/357، المحرر الوجيز 3/129، البحر المحيط 5/174، الدر المصون 4/50.