18- وليس أحد أكثر ظلماً لنفسه وبُعداً عن الحق من الذين يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله . إن هؤلاء سيعرضون يوم القيامة على ربهم ليحاسبهم على ما عملوا من سوء ، فيقول الأشهاد من الملائكة والأنبياء وغيرهم : هؤلاء هم الذين ارتكبوا أفظع الجرم والظلم بالنسبة لخالقهم . إن لعنة الله ستقع عليهم لأنهم ظالمون .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } ، فزعم أن له ولداً أو شريكاً ، أي : لا أحد أظلم منه ، { أولئك } ، يعني : الكاذبين والمكذبين ، " يعرضون على ربهم " ، فيسألهم عن أعمالهم . { ويقول الأشهاد } ، يعني : الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم ، قاله مجاهد . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . إنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، وهو قول الضحاك . وقال قتادة : الخلائق كلهم . روينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ، فيقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، فيعطى كتاب حسناته " ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق . { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين* } .
ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به ؛ ويزعمون أنه مفترى من دون الله ، ويكذبون على الله سبحانه وعلى رسوله [ ص ] وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب . سواء بقولهم : إن الله لم ينزل هذا الكتاب ، أو بادعائهم شركاء لله . أو بدعواهم في الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية . . يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على الله .
هؤلاء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد . وفي الجانب الآخر المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم . ويضرب للفريقين مثلا : الأعمى والأصم والبصير والسميع :
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم . ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع . هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) .
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء ، وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب . فما بال حين يكون هذا الافتراء على الله ؟
( أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) .
إنه التشهير والتشنيع . بالإشارة : ( هؤلاء ) . . ( هؤلاء الذين كذبوا ) . . وعلى من ؟ ( على ربهم )لا على أحد آخر ! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد ، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة :
( ألا لعنة الله على الظالمين ) . .
يقولها الأشهاد كذلك . والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون ، أو هم الناس أجمعون . فهو الخزي والتشهير - إذن - في ساحة العرض الحاشدة ! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد :
يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق ؛ من الملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، وسائر البشر والجان ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا بَهْز وعفان قالا أخبرنا هَمَّام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال : كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : " إن الله عز وجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنَفَه ، ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا{[14540]} ؟ أتعرف ذنب كذا{[14541]} ؟ أتعرف ذنب كذا{[14542]} ؟ حتى إذا قَرَّره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : { الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }
أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين ، من حديث قتادة به{[14543]} .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله . { أولئك } أي الكاذبون . { ُيعرَضون على ربهم } في الموقف بأن يحبسوا وتعرض أعمالهم . { ويقول الأشهاد } من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم ، وهو جمع شاهد كأصحاب أو شهيد كأشراف جمع شريف . { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ لظلمهم بالكذب على الله .
قوله : { ومن } استفهام بمعنى التقرير ، وكأنه قال : لا أحد أظلم ممن افترى كذباً ، والمراد ب { من } الكفرة الذين يدعون مع الله إلهاً آخر ويفترون في غير ما شيء ، وقوله : { أولئك يعرضون على ربهم } عبارة عن الإشادة بهم{[6291]} والتشهير لخزيهم وإلا فكل بشر معروض على الله يوم القيامة .
وقوله : { يقول الأشهاد } قالت فرقة : يريد الشهداء من الأنبياء والملائكة ، فيجيء قوله : { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } إخباراً عنهم وشهادة عليهم وقالت فرقة : { الأشهاد } بمعنى الشاهدين ، ويريد جميع الخلائق ، وفي ذلك إشادة بهم ، وروي في نحو هذا حديث : «إنه لا يخزى أحد يوم القيامة إلا ويعلم ذلك جميع من شهد المحشر »{[6292]} فيجيء قوله : { هؤلاء } - على هذا التأويل - استفهاماً عنهم وتثبيتاً فيهم كما تقول إذا رأيت مجرماً قد عوقب : هذا هو الذي فعل كذا وإن كنت قد علمت ذلك ، ويحتمل الإخبار عنهم{[6293]} .
وقوله : { ألا } استفتاح كلام ، و «اللعنة » الإبعاد و { الذين } نعت ل { الظالمين } ؛ ويحتمل الرفع على تقدير هم الذين .
لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله ، وتعجيزهم عن برهان لما زعموه ، كَرّ عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب ، منها نفيهم أن يكون القرآن منزّلاً من عنده .
فعطفت جملة { ومن أظلم ممن افترى } على جملة { ومن يكْفر به من الأحزاب فالنار موعده } [ هود : 17 ] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير مَن أنزله ، وزعموا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه ، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلَمَ منهم سؤالَ إنكار يؤول إلى معنى النفي ، أي لا أحد أظلم . وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } في سورة [ البقرة : 114 ] ، وفي سورة [ الأعراف : 37 ] في قوله : { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته } وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك ، كقولهم : إن الأصنام شفعاؤهم عند الله ، وقولهم في كثير من أمور دينهم { واللّهُ أمرَنا بها } [ الأعراف : 28 ] . وقال تعالى : { ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } [ المائدة : 103 ] أي إذ يقولون : أمرنا الله بذلك .
وجملة { أولئك يعرضون على ربهم } استئناف . وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخَبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف ، وهذا أشد الظلم كما تقدم في { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
ولمَا يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عَرض زجر وانتقام .
والعرض إذا عدّي بحرف ( على ) أفاد معنى الإحضار بإراءة .
واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم .
وعطف فعل ( يقول ) على فعل ( يعرضون ) الذي هو خبر ، فهو عطف على جزء الجملة السابقة وهو هنا ابتداء عطف جملة على جملة فكلا الفعلين مقصود بالإخبار عَن اسم الإشارة .
والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحاً لهم .
والأشهاد : جمع شاهد بمعنى حاضر ، أو جمع شهيد بمعنى المخبر بما عليهم من الحق . وهؤلاء الأشهادُ من الملائكة .
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم ، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم .
والإتيانُ بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو { ألا لعنة الله على الظالمين } ، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة . والمقصود من إعلان هذ الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله : { أولئك يعرضون على ربهم } .
وجملة { ألاَ لعنة الله على الظالِمين } من بقية قول الأشهاد . وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير ، والخبر مستعمل في الدعاء خزياً وتحقيراً لهم ، وممّا يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة [ الأعراف : 44 ] مصرحاً فيه بذلك { فأذّن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين } الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم، فقال: {ومن أظلم} يقول: فلا أحد أظلم {ممن افترى}، يعني تقَوَّل {على الله كذبا} بأن معه شريكا، {أولئك} الكذبة {يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد}، يعني الأنبياء، ويقال: الحفظة، ويقال: الناس مثل قول الرجل: على رءوس الأشهاد، {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} يعني بالأشهاد: الأنبياء، فإذا عرضوا على ربهم، قالت الأنبياء: نحن نشهد عليكم أنا شهدنا بالحق فكذبونا، ونشهد أنهم كذبوا على ربهم، وقالوا: إن مع الله شريكا، {ألا لعنة الله على الظالمين}، يعني المشركين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب عليه؟ (أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) يعرضون يوم القيامة على ربهم، فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون...
وقوله:"وَيَقُولُ الأشْهادُ" يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون... "هَؤُلاءِ الّذِينَ كَذَبُوا على رَبّهِمْ "يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم. يقول الله: "ألاَ لَعْنَةُ اللّهِ على الظّالِمِينَ" يقول: ألا غضب الله على المعتدين الذي كفروا بربهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) هو ما ذكرنا أن لا أحد أظلم على نفسه ممن أخذ نفسه من معبوده، وشغلها في عبادة من لا يملك نفعا إن عبده، ولا ضرا إن ترك عبادته. أو يقول: لا أحد أظلم على نفسه ممن ألقى نفسه الطاهرة في عذاب الله ونقمته أبدا بافترائه على الله، وبالله العصمة والقوة. وفي التأويل: لا أحد أظلم على نفسه ممن افترى على الله كذبا... لا أحد أفحش ظلما ممن افترى على الله كذبا بعد معرفته أن جميع ماله من الله. وقوله تعالى: (أولئك يعرضون على ربهم) أي أولئك الذين تعرض أعمالهم على أنفسهم عند ربهم؛ فإن وافقت أعمالهم ما في شهادة خلقتهم أدخلوا الجنة، وإن خالفت أعمالهم شهادة خلقتهم أدخلوا النار. تعرض على أنفسهم عند ربهم لأن الله عز وجل عالم بما كان منهم من الأعمال والأقوال (على ربهم) أي عند ربهم كقوله (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) [الأنعام: 27و30] أي عند ربهم؛ وتأويله ما ذكرنا: يعرضون على ربهم لأنفسهم لأنهم إنما يؤمرون، وينهون، ويمتحنون لأنفسهم ولمنفعة أنفسهم؛ فيكون عرضهم لهم: أو أن يكون قوله: (أولئك يعرضون على ربهم) أولئك يعرضون على ما وعدهم ربهم؛ في الدنيا، أو يقول: (أولئك يعرضون) لأنفسهم (على ربهم) من غير غيبة كانت منه، والله أعلم. وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ)... معناه، والله أعلم: تعرض أعمالهم وأقوالهم على أنفسهم؛ فإن أقروا بها بعثوا إلى النار، وإن أنكروها يشهد عليهم ما ذكرنا من الشهداء، فإن أنكروا ذلك فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم كقوله: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) الآية [النور: 24]. ويحتمل أن تكون الملائكة نادوا في ملأ الخلق قبل أن يدخلوا النار: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويحتمل ما ذكرنا في شهادة الذين كانوا موكلين بكتابة أعمالهم وأقوالهم، يخبرون مما كتبوا في الكتب. وقوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) اللعنة: قال بعضهم: هي الطرد عن جميع المنافع، والإبعاد عن رحمة الله في الدنيا، وفي الآخرة عن ثوابه. وقال بعضهم: اللعنة: هي العذاب...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال الحسن: معنى قوله:"ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا" : لا أحد أظلم منه، إلا أنه خرج مخرج الاستفهام مبالغة في أنه أظلم لنفسه من كل ظالم، وإنما كان المفتري على الله كذبا أظلم من كل ظالم، لأنه يجحد نعم الله ولا يشكرها. وقوله "أولئك يعرضون على ربهم "إخبار منه تعالى أن من هذه صفته يعرض على الله يوم القيامة. والعرض: إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حاله... ومعنى العرض على الله أنهم يقفون في المقام الذي يرى العباد، وقد جعله الله تعالى للمطالبة بالأعمال فهو بمنزلة العرض في الحقيقة، لأنهم لا يخفون عليه في حال من الأحوال بل هو تعالى يراهم حيث كانوا. وقوله "ويقول الأشهاد "يعني الملائكة والأنبياء والعلماء، يشهدون بما كان منهم من الكذب عليه تعالى...
وقوله" ألا لعنة الله على الظالمين "تنبيه من الله تعالى لخلقه بأن لعنته على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بإدخال الضرر عليها وعلى غيرهم بإدخال الآلام عليهم. ولعنة الله: إبعاده من رحمته...
اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة، فمنها شدة حرصهم على الدنيا، ورغبتهم في تحصيلها، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} إلى آخر الآية، ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته، وقد أبطل الله تعالى بقوله: {أفمن كان على بينة من ربه}، ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية، وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى، فلما بين وعيد المفترين على الله، فقد دخل فيه هذا الكلام.
واعلم أن قوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} إنما يورد في معرض المبالغة، وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم. ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله: {أولئك يعرضون على ربهم} وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض، لأن العرض عام في كل العباد كما قال: {وعرضوا على ربك صفا} وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدين من غير دليل و ما نسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الافتراء، أتبع ذلك سبحانه قوله: {ومن أظلم} أي لا أحد أظلم {ممن افترى} أي تعمد أن اختلق متكبراً {على الله} أي الملك الأعظم {كذباً} الآية، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل: لا يؤمنون ظلماً منهم، ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين، فأتى بهذا الظاهر بياناً لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته. ولما بين أنهم أظلم، أتبعه جزاءهم بقوله استئنافاً: {أولئك} المستحقو البعد؛ ولما كان نفس العرض مخوفاً، بنى للمجهول قوله: {يعرضون} أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض، فعرضهم في غاية السهولة {على ربهم} أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم {ويقول} على سبيل التكرار {الأشهاد} وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله {ويتلوه شاهد منه} والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على أفواههم {هؤلاء} إشارة بأداة القرب إلى تحقيرهم {الذين كذبوا} متكبرين {على ربهم} في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم، فتكررت بهذا القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترئ بالكذب على الرؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم وكل من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه، وكأنه قيل: فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة؟ فقيل: {ألا لعنة الله} وهي طرد الملك الأعظم وإبعاده، وانظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما أشده {على الظالمين} فكيف بأظلم الظالمين...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
يعني أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذباً، وهذا التركيُب وإن كان سبكُه على إنكار أن يكون أحدٌ أظلمَ منهم من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيِها ولكنّ المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها وإفادةُ أنهم أظلم من كل ظالمٍ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} أي لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله كذبا في وحيه وأقواله، أو أحكامه أو صفاته أو أفعاله، وقد تقدم مثل هذه الجملة في الأنعام [الآيات: 21 و 144] والأعراف [الآية: 36] ويونس [الآية: 17] وسيأتي في الكهف والعنكبوت والصف، ويفسر الافتراء في كل آية بما يدل عليه السياق، وأظهره هنا اتخاذ الشركاء والأولياء والشفعاء له بدون إذنه، وزعم من زعم أنه اتخذ له ولدا من الملائكة كالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والوثنيين الذين قالوا: إن كرشنا ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، وكذا من افترى عليه بتكذيب ما جاء به رسله من دينه، لصدهم الناس عن سبيله.
{أولئك يعرضون على ربهم} يوم القيامة لمحاسبتهم وتعرض عليه أعمالهم وأقوالهم {ويقول الأشهاد} الذين يقومون بأمره للشهادة عليهم من الملائكة الكرام الكاتبين، والأنبياء المرسلين، وصالحي المؤمنين "الأشهاد جمع شاهد كأصحاب، أو شهيد كأشراف "{هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} أي يشيرون إليهم بأشخاصهم فيفضحونهم بهذه الشهادة المقرونة باللعنة، الدالة على خروجهم في ذلك اليوم من محيط الرحمة، وجملة اللعنة يجوز أن تكون من كلام الأشهاد، وأن تكون مستأنفة من كلام الله تعالى وفي معنى هذا قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار} [غافر: 51-52].
وفي حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من النار ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} 54 وقد بينا مسألة الشهادة والشهداء يوم القيامة في مواضعها من سورة البقرة والنساء والأنعام والأعراف مفصلة تفصيلا، فراجع تفسيرها في مواضعها من أجزاء التفسير مستدلا عليها بألفاظها في فهارسها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه لا أحد {أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ويدخل في هذا كل من كذب على الله، بنسبة الشريك له، أو وصفه بما لا يليق بجلاله، أو الإخبار عنه، بما لم يقل، أو ادعاء النبوة، أو غير ذلك من الكذب على الله، فهؤلاء أعظم الناس ظلما...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما انقضى الكلام من إبطال زعمهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم افترى القرآن ونسبه إلى الله، وتعجيزهم عن برهان لما زعموه، كَرّ عليهم أن قد وضح أنهم المفترون على الله عدة أكاذيب، منها نفيهم أن يكون القرآن منزّلاً من عنده. فعطفت جملة {ومن أظلم ممن افترى} على جملة {ومن يكْفر به من الأحزاب فالنار موعده} [هود: 17] لبيان استحقاقهم النار على كفرهم بالقرآن لأنهم كفروا به افتراء على الله إذ نسبوا القرآن إلى غير مَن أنزله، وزعموا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم افتراه، فكانوا بالغين غاية الظلم حتى لقد يسأل عن وجود فريق أظلَمَ منهم سؤالَ إنكار يؤول إلى معنى النفي، أي لا أحد أظلم. وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} في سورة [البقرة: 114]، وفي سورة [الأعراف: 37] في قوله: {فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته} وافتراؤهم على الله هو ما وضعوه من دين الشرك، كقولهم: إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقولهم في كثير من أمور دينهم {واللّهُ أمرَنا بها} [الأعراف: 28]. وقال تعالى: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} [المائدة: 103] أي إذ يقولون: أمرنا الله بذلك. وجملة {أولئك يعرضون على ربهم} استئناف. وتصديرها باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخَبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الوصف، وهذا أشد الظلم كما تقدم في {أولئك على هدى من ربهم} في سورة [البقرة: 5]. ولمَا يؤذن به اسم الإشارة من معنى تعليل ما قبله فيما بعده علم أن عرضهم على ربهم عَرض زجر وانتقام. والعرض إذا عدّي بحرف (على) أفاد معنى الإحضار بإراءة. واختيار وصف السبب للإيماء إلى القدرة عليهم...
والمعنى أولئك يعرضون على الله للعقاب ويعلن الأشهاد بأنهم كذبوا على ربهم فضحاً لهم...
واستحضارهم بطريق اسم الإشارة لتمييزهم للناس كلهم حتى يشتهر ما سيخبر به عن حالهم، والمقصود من ذلك شهرتهم بالسوء وافتضاحهم. والإتيانُ بالموصول في الخبر عنهم إيماء إلى سببية ذلك الوصف الذي في الصلة فيما يرد عليهم من الحكم وهو {ألا لعنة الله على الظالمين}، على أن المقصود تشهيرهم دون الشهادة. والمقصود من إعلان هذ الصفة التشهير والخزي لا إثبات كذبهم لأن إثبات ذلك حاصل في صحف أعمالهم ولذلك لم يسند العرض إلى أعمالهم وأسند إلى ذواتهم في قوله: {أولئك يعرضون على ربهم}. وجملة {ألاَ لعنة الله على الظالِمين} من بقية قول الأشهاد. وافتتاحها بحرف التنبيه يناسب مقام التشهير، والخبر مستعمل في الدعاء خزياً وتحقيراً لهم، وممّا يؤيد أنه من قول الأشهاد وقوع نظيره في سورة [الأعراف: 44] مصرحاً فيه بذلك {فأذّن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين} الآية...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الكفر مباءة للآثام، تعيش فيه وتفرخ، ويتبع الإثم إثم مثله، ويأخذ بعضه بحجز بعض في سلسلة متصلة تبدأ بالشرك بالله تعالى ثم بالكذب عليه بتحريم ما أحل الله على أنه من عند الله، والجحود بما أنزل سبحانه والافتراء عليه تعالى وفساد اعتقادهم بأن يعبدوا الأوثان ويقولوا إنهم شفعاؤنا. وهكذا يكون الشرك كالمعاطن التي تحوم حولها الحشرات والجراثيم وكل الموبقات. وأوضح ما في الشرك الكذب على الله تعالى بما ذكرنا وغيره، ولذا قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا}، الاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، بمعنى لا أحد أظلم ممن افترى قاصدا الكذب على الله تعالى، وهم قد ارتكبوا أشد الظلم إمعانا في الشر والكذب على الله بأن يشركوا به غيره كما أشرنا، وبأن يخترعوا مفاسد وينسبوها إلى شريعة إبراهيم عليه السلام كطوافهم عرايا وأن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله ويزعمون أن الله حرمها وغير ذلك مما حرموه ناسبين التحريم إليه افتئاتا عليه، فلا أحد أعظم منهم بهتانا وكفرا. افترى الكذب معناه قصده وأراده، والكلمة نكرت لبيان أن الكذب على الله تعالى أو كثر ظلم عظيم بل أعظم الظلم، وأن الشرك ظلم عظيم لأن من أشرك ضلل نفسه وضلل الناس ولأنه ارتكب بهتانا عظيما.
{أولئك يعرضون على ربهم} الإشارة إلى الذين افتروا الكذب، يعرضون على ربهم الذي خلقهم ورباهم وحفظهم وهو الحي القيوم. وهم يعرضون على ربهم ويلقونه سبحانه غير مختارين، وهو اللقاء الذي لا يتمنونه؛ لأنه لقاء الذين كفروا بربهم يعرضون عليه كما يعرض الجاني على شهوده ليشهدوا عليه، كما أنهم يرون ما أنكروا وكذبوا. وفي المحشر والحشد الجامع يقول المشاهدون من ملائكة وأنبياء وصديقين {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} مشيرين إليهم استنكارا لفعلهم وبيانا لشناعة ما كانوا عليه وحسبهم ذلك سوءا وفحشا واستحقاقا للعذاب. وإن ذلك العرض وتلك الشهادة أبلغ عقاب معنوي، ومن بعد ذلك يكون العقاب المادي على ذلك الظلم الفاجر الآثم والشرك الضال المضل...