هذه السورة مكية ، قيل : إلا ثلاث آيات منها هي الآيات 52 ، 53 ، 54 ، وآياتها 75 آية ، افتتحت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ، ثم بالدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده والرد على من قال : إن لله ولدا . ثم عرضت الآيات قدرة الله تعالى في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان ، وأن الناس إن يكفروا به فهو غني عنهم ، وإن يشكروا يرضه لهم ولا يرضى لهم بالكفر ، كما عرضت لخلق من أخلاق الإنسان في موضعين : أنه إذا مسه الضر دعا ربه وأناب إليه ، وإذا أنعم عليه نسى ما كان يدعو إليه من قبل .
ثم عقدت مقارنة بين من يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، وبين المتمردين عليه ، وما أعد لهؤلاء وأولئك من الجزاء يوم القيامة ، ثم ذكرهم بنعمة الله عليهم بإنزاله الماء ، وأنه يحيي به الأرض بعد موتها ، ينبت به النبات الذي يأخذ أطوارا متعددة ، وفي ذلك ذكرى لأولي الألباب .
وتعود السورة للحديث عن القرآن وتأثيره على الذين يخشون ربهم ، وأن الله قد ضرب فيه الأمثلة لعلهم يتذكرون ، قرآنا غير ذي عوج لعلهم يتقون ، ثم قارنت السورة بين العبد المشرك والبعد المخلص لله ، وأنهما لا يستويان ، وأن الموت هو مآل الجميع ، ثم عند ربهم يختصمون .
ثم بينت مآل من كذب على الله وكذب بالصدق ، ومآل الصادقين في أقوالهم ، المصدقين لما أنزل إليهم ، وأن هؤلاء المشركين لو سألتهم : من خلق السماوات والأرض ؟ ليقولن : الله . ولكنهم مع ذلك يعبدون من لا يدفعون عنهم ضرا إن أرادهم الله بضر ، ولا يمسكون رحمة إن أراد الله بهم رحمة ، ثم تقرر هذه السورة أن هذا الكتاب أنزل بالحق ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإثمه على نفسه ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عليهم بوكيل .
ثم تعود إلى تذكيرهم بالموت والبعث ، وأن الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لا يملكون لهم شيئا حتى الشفاعة ، فإن لله الشفاعة جميعا .
ولما كثر الكلام عما أعد للعصاة والمسرفين من العذاب الأليم وربما كان هذا مما يبعث في قلوبهم اليأس من رحمة الله فتح لهم باب الأمل في رحمته { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } ودعاهم إلى الإنابة إليه قبل أن يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } . والذين اتقوا لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ، وختمت السورة بالحديث عن اليوم الآخر ، من مبدئه يوم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، إلى أن يأخذ كل ذي حق حقه ، فيساق أهل النار إليها ، كما يساق أهل الجنة إليها ، ويقولون فيها : الحمد لله الذي صدقنا وعده وقضى بين الجميع بالحق ، وقيل : الحمد لله رب العالمين .
تنزيل القرآن من الله الذي لا يغلبه أحد على مراده ، الحكيم في فعله وتشريعه .
سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد . وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة ؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة ؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة . ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها ؛ يعرض في صور شتى .
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص . . . الخ . . . وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً . وإما مفهوماً . .
نصاً كقوله : قل : إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه . . . الخ . . أو قوله : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ? ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) .
ومفهوماً كقوله : ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ، ورجلا سلما لرجل . هل يستويان مثلاً : الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . . أو قوله : ( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه ، ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ) . .
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة . ذلك كقوله : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى . فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولوا الألباب . . ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . ومن يضلل الله فما له من هاد ) . . ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ) . .
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة . . إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها . وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت ! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها . ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة . مثل هذه الإشارات : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? ) . . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ? ) . . ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? ) . . ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) . . ( أليس في جهنم مثوى للكافرين ? ) . . ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ؛ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) . . ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون . أن تقول نفس : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . . ) . . وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً ، وتظلل جوها بظلال الآخرة .
أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة . .
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها : ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ألا هو العزيز الغفار ) . .
ومشهد آخر في وسطها : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ؛ ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ؛ ثم يهيج فتراه مصفراً ؛ ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين .
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ، وفي أغوار نفوسهم ، تتوزع في ثناياها .
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية : ( خلقكم من نفس واحدة ؛ ثم جعل منها زوجها . وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث . ذلكم الله ربكم له الملك . لا إله إلا هو ، فأنى تصرفون ? ) .
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ؛ ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . . . الخ . . ( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ؛ ثم إذا خولناه نعمة منا قال : إنما أوتيته على علم بل هي فتنة . . ) . .
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ؛ فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا . حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وقضي بينهم بالحق ، وقيل : الحمد لله رب العالمين ) .
هذا الظل يتناسق مع جو السورة ، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها . فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش . ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته . نجد هذا في صورة القانت( آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) . وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب ، والتخويف منه : ( قل : يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ) . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل . ذلك يخوف الله به عباده . يا عباد فاتقون ) . . ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع .
والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة ؛ تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة ، أو ظل من ظلالها . وسنحاول أن نستعرض هذه الجولات المتتابعة كما وردت في السياق . إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة . وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في موضعها . ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة . حقيقة التوحيد الكبيرة . .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون . إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) .
تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . .
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله ؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير .
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلاً ؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفاً عليها ؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها . قضية توحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، وإخلاص الدين له ، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره ؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع :
قال النسائي : حدثنا محمد بن النضر بن مساور ، حدثنا حماد ، عن مروان أبي لبابة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر . ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم . وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر .
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب - وهو القرآن العظيم - من عنده ، تبارك وتعالى ، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [ الشعراء : 192 - 195 ] .
وقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ، 41 ] . وقال هاهنا : { تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ } أي : المنيع الجناب ، { الْحَكِيمِ } أي : في أقواله وأفعاله ، وشرعه ، وقدره .
سورة الزمر وآياتها خمس وسبعون .
هذه السورة مكية بإجماع ، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وهي :{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآيات ، وقالت فرقة : بل إلى آخر السورة هو مدني ، وقيل : فيها مدني سبع آيات .
قوله عز وجل : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
{ تنزيل } رفع بالابتداء ، والخبر قوله : { من الله } وقالت فرقة : { تنزيل } خبر ابتداء تقديره : هذا تنزيل ، والإشارة إلى القرآن .
وقرأ ابن أبي عبلة : «تنزيلَ » بنصب اللام .
و : { الكتاب } في قوله : { تنزيل الكتاب } قال المفسرون : هو القرآن ويظهر إلي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب ، فإنه أخبر إخباراً مجرداً الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمه وتوطئة لقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب } .