وبعد هذه الجولة في الآفاق وفي أنفسهم لإثبات الوحدانية ونفي الشرك . يأخذ معهم في جولة أخرى عن الغيب المستور الذي لا يعلمه إلا الخالق الواحد المدبر ، وعن الآخرة وهي غيب من غيب الله ، يشهد المنطق والبداهة والفطرة بضرورته ؛ ويعجز الإدراك والعلم البشري عن تحديد موعده :
قل : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان يبعثون . بل ادارك علمهم في الآخرة ، بل هم في شك منها ، بل هم منها عمون . وقال الذين كفروا : أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ? لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل . إن هذا إلا أساطير الأولين ! قل : سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين . ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? قل : عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون . وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون . وإن ربك ليعلم ما تكن صدوهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين .
والإيمان بالبعث والحشر ، وبالحساب والجزاء ، عنصر أصيل في العقيدة ، لا يستقيم منهجها في الحياة إلا به . فلا بد من عالم مرتقب ، يكمل فيه الجزاء ، ويتناسق فيه العمل والأجر ، ويتعلق به القلب ، وتحسب حسابه النفس ، ويقيم الإنسان نشاطه في هذه الأرض على أساس ما ينتظره هناك .
ولقد وقفت البشرية في أجيالها المختلفة ورسالاتها المتوالية موقفا عجيبا من قضية البعث والدار الآخرة ، وعلى بساطتها وضرورتها . فكان أعجب ما تدهش له أن ينبئها رسول أن هناك بعثا بعد الموت وحياة بعد الدثور . ولم تكن معجزة بدء الحياة الواقعة التي لا تنكر تلهم البشرية أن الحياة الأخرى أهون وأيسر . ومن ثم كانت تعرض عن نذير الآخرة ، وتستمرى ء الجحود والمعصية ، وتستطرد في الكفر والتكذيب .
والآخرة غيب . ولا يعلم الغيب إلا الله . وهم كانوا يطلبون تحديد موعدها أو يكذبوا بالنذر ، ويحسبوها أساطير ، سبق تكرارها ولم تحقق أبدا !
فهنا يقرر أن الغيب من أمر الله ، وأن علمهم عن الآخرة منته محدود :
( قل : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان يبعثون . بل ادارك علمهم في الآخرة ، بل هم في شك منها ، بل هم منها عمون ) . .
ولقد وقف الإنسان منذ بدء الخليقة أمام ستر الغيب المحجوب ، لا ينفذ إليه علمه ، ولا يعرف مما وراء الستر المسدل ، إلا بقدر ما يكشف له منه علام الغيوب . وكان الخير في هذا الذي أراده الله ، فلو علم الله أن في كشف هذا الستر المسبل خيرا لكشفه للإنسان المتطلع الشديد التطلع إلى ما وراءه !
لقد منح الله هذا الإنسان من المواهب والاستعدادات والقوى والطاقات ما يحقق به الخلافة في الأرض ، وما ينهض به بهذا التكليف الضخم . . ولا زيادة . . وانكشاف ستر الغيب له ليس مما يعينه في هذه المهمة . بل إن انطباق أهدابه دونه لمما يثير تطلعه إلى المعرفة ، فينقب ويبحث . وفي الطريق يخرج المخبوء في باطن الأرض ، وجوف البحر ، وأقطار الفضاء ؛ ويهتدي إلى نواميس الكون والقوى الكامنة فيه ، والأسرار المودعة في كيانه لخير البشر ، ويحلل في مادة الأرض ويركب ، ويعدل في تكوينها وأشكالها ، ويبتدع في أنماط الحياة ونماذجها . . حتى يؤدي دوره كاملا في عمارة هذه الأرض ، ويحقق وعد الله بخلافة هذا المخلوق الإنساني فيها .
وليس الإنسان وحده هو المحجوب عن غيب الله ، ولكن كل من في السماوت والأرض من خلق الله . من ملائكة وجن وغيرهم ممن علمهم عند الله . فكلهم موكلون بأمور لا تستدعي انكشاف ستر الغيب لهم ، فيبقي سره عند الله دون سواه .
( قل : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) . .
وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدع ، ولا يبقى معه مجال للوهم والخرافة .
وبعد هذا التعميم في أمر الغيب يخصص في أمر الآخرة لأنها القضية التي عليها النزاع مع المشركين بعد قضية التوحيد :
( وما يشعرون أيان يبعثون ) . .
ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره وهو الشعور . فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا ، ولا يشعرون به حين يقترب شعورا . فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا أحد يعلمه في السماوات ولا في الأرض .
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلمًا لجميع الخلق : أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب . وقوله : { إِلا اللَّهَ } استثناء منقطع ، أي : لا يعلم أحد ذلك إلا الله ، عز وجل ، فإنه المنفرد بذلك وحده ، لا شريك له ، كما قال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } الآية [ الأنعام : 59 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ] ، والآيات في هذا كثيرة .
وقوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة ، كما قال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [ الأعراف : 187 ] ، أي : ثقل علمها على أهل السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجَعْد ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : مَنْ زعم أنه يعلم - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفِرْية ؛ لأن الله تعالى يقول : { لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } {[22133]} .
وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصلات{[22134]} : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجومًا [ للشياطين ]{[22135]} ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به . وإن ناسًا جَهَلَة بأمر الله ، قد{[22136]} أحدثوا من هذه النجوم كهانة : من أعْرَس بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ومَنْ سافر بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ومَنْ ولد بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود ، والقصير والطويل ، والحسن والدميم ، وما علْمُ هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب ! وقضى الله : أنه لا يعلم مَنْ في السموات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان يبعثون .
{ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة اتبعه ما هو كاللازم له ، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على انه تعالى إن كان ممن في السماوات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم ، أو متصل على أن المراد ممن في السماوات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها ، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف . { وما يشعرون أيان يبعثون } متى ينشرون مركبة من " أي " " وآن " ، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة .