الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ} (65)

قوله : { إِلاَّ اللَّهُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعلُ " يَعْلَمُ " و " مَنْ " مفعولُه . و " الغيبَ " بدلٌ مِنْ " مَنْ السماواتِ " أي : لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي : الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ . وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ . الثاني : أنه مستثنى متصلٌ مِنْ " مَنْ " ، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى : أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ ، فيَنْدَرِجُ في { مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ } بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ " مَنْ " وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ .

وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا : بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال : " فإنْ قلتَ : لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ ، واللهُ يَتعالَى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض ؟ قلت : جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون : " ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ " يريدون : ما فيها إلاَّ حمارٌ ، كأنَّ " أحداً " لم يُذْكَرْ . ومنه قولُه :

عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها *** ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ

وقولُهم : " ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه " . فإنت قلت : ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي ؟ قلت : دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه :

إلاَّ اليَعافِيرُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***

بعد قوله :

3579 . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيْسَ بها أنيسُ ***

ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك : إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ . يعني : أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم . كما أنَّ معنى ما في البيت : إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ . فإن قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ ، كما يقول المتكلمون : " إنَّ الله في كلِّ مكان " على معنى : أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها ، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ " قلتُ : يَأْبَى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ . على أنَّ قولَك " مَنْ في السماوات والأرض : وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه . ألا ترى كيف " قال عليه السلام لِمَنْ قال : " ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى " " بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت " " قلت : فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر . وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة . وقد قال به الشافعيُّ " .

قوله : { أَيَّانَ } هي هنا ، بمعنى " متى " / وهي منصوبةٌ ب " يُبْعَثون " فتعلُّقُه ب " يَشْعُرون " فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي : ما يَشْعرون بكذا . وقرأ السُّلميٌّ " إيَّان " بكسرِ الهمزةِ ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم .