اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ} (65)

قوله ( تعالى : { قُل ){[39316]} لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } لما بين أنه مختص بالقدرة ، بين أنه المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه الإله المعبود{[39317]} .

وفي هذا الاستثناء أوجه :

أحدها : أنه فاعل «يعلم » ، و «من » مفعوله ، و «الغيب » بدل من «من في السموات » أي : لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي : الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهو وجه غريب ذكره أبو حيان{[39318]} .

الثاني : أنه مستثنى متصل من «من » ، ولكن لا بد من الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة على هذا الوجه ، و{[39319]} بيانه أن الظرفية المستفادة من «مَنْ في » حقيقة بالنسبة إلى غير الله تعالى ، ومجاز بالنسبة إلى الله تعالى بمعنى{[39320]} : أن علمه في السموات والأرض فيندرج ( في ){[39321]} { مَن فِي السماوات والأرض } بهذا الاعتبار ، وهو مجاز ، وغيره من مخلوقاته في السموات والأرض حقيقة ، فبذلك الاندراج المؤول استثني من «مَنْ » ، وكان الرفع على البدل أولى ، ( لأن الكلام غير موجب{[39322]} ، قال مكي : الرفع في اسم الله - عز وجل - على البدل ) {[39323]}من من{[39324]} .

ورد الزمخشري هذا بأنه جمع بين الحقيقة والمجاز وأوجب أن يكون منقطعاً ، فقال : فإن{[39325]} قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض ؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد{[39326]} إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأنَّ أحداً لم يذكر ، ومنه قوله :

3969 - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا *** وَلاَ النَّبْلُ{[39327]} إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ{[39328]}

وقولهم : ما أتاني زيد «إلا عمرو » ، وما أعانني{[39329]} إخوانكم إلا إخوانه ، فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ قلت : دعيت إليه نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلاَّ اليَعَافِيرُ ، بعد قوله : لَيْسَ بِهَا أنِيس{[39330]} : ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب يعني أن علمهم الغيب - في استحالته - كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أن معنى «ما في البيت » إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتّاً للقول بخلوها من الأنيس . فإن قلت : هلا زعمت أن الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : «إن الله في كل مكان » على معنى : أن علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا يحمل على مذهب بني تميم ؟ قلت : يأبى ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيح ، على أن قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد فيه إيهام وتسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته ، ألا ترى كيف قال عليه السلام{[39331]} لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى : «بئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أنْت{[39332]} »{[39333]} .

فقد رجح الانقطاع ، واعتذر في ارتكاب مذهب التميميين بما ذكر ، وأكثر العلماء أنه لا يجمع بين الحقيقة والمجاز{[39334]} في كلمة واحدة ، وقد قال به الشافعي .

فصل :

نزلت هذه الآية في المشركين ، حيث سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة{[39335]} . و «مَا يَشْعُرُون » صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم بالغيب ، وذكر في جملة الغيب : متى{[39336]} البعث ؛ بقوله : «أيَّانَ يُبْعَثُونَ » ، و «أَيَّانَ » بمعنى متى{[39337]} ، وهي كلمة مركبة من : أي والآن ، وهو{[39338]} الوقت . وقرئ : «إيّان » بكسر الهمزة ، قرأ بها السلمي{[39339]} ، وهي لغة قومه بني سليم{[39340]} ، وهي منصوبة ب «يُبْعَثُونَ » ومعلقة ل «يَشْعُرُونَ » فهي مع ما بعدها في محل{[39341]} نصب بإسقاط الباء ، أي ما يشعرون بكذا .


[39316]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39317]:انظر الفخر الرازي 24/211.
[39318]:انظر البحر المحيط 7/91.
[39319]:و: سقط من ب.
[39320]:في ب: معنى.
[39321]:في : تكملة ليست في المخطوط.
[39322]:انظر البيان 2/226.
[39323]:ما بين القوسين سقط من ب.
[39324]:مشكل إعراب القرآن 2/153، وانظر التبيان 2/1012.
[39325]:في ب: وإن
[39326]:في ب: واحد.
[39327]:في ب: السبيل.
[39328]:البيت من البحر الطويل، قاله الحصين بن الحمام، ويروى لضرار بن الأزور. وقد تقدم.
[39329]:في الكشاف: وما أعانه.
[39330]:جزءان من بيتين من الرجز وتمامهما: وبلدة ليس بها أنيس*** إلا اليعافير وإلا العيس قالهما جران العود، وهما في الكتاب 1/263، 2/322، معاني القرآن للفراء 1/479، 2/15، المقتضب 2/318، 346، 4/414، الإنصاف 1/271، 377، ابن يعيش 2/80، 117، 7/21، 8/52، شذور الذهب (265)، المقاصد النحوية 3/107، التصريح 1/353، الهمع 1/225، 2/144، الأشموني 2/147، الخزانة 10/15، الدرر 1/192، 2/202، الواو في (بلدة) واو (رب)، و(بلدة) مجرور بـ (رب) المحذوفة. والبلدة: القطعة من الأرض، ومطلق الأرض. الأنيس: من يونس به من الناس اليعافير: جمع يعفور، وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضا. وقال بعضهم: اليعفور: تيس الظباء. والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة، جمع أعيس، والأنثى عيساء. والشاهد فيه قوله: (إلا اليعافير وإلا العيس) بالرفع بدل من (أنيس) وإن لم يكن من جنسه على لغة بني تميم، وأهل الحجاز يوجبون في هذا النصب.
[39331]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[39332]:أخرجه مسلم (جمعة) 2/594، أبو داود (صلاة) 1/660، النسائي (نكاح) 6/90، أحمد 4/256، 379.
[39333]:الكشاف 3/149-150.
[39334]:الحقيقة لغة: ذات الشيء اللازمة له، وفي الاصطلاح: لفظ المستعمل فيها وضع له في الاصطلاح الذي به التخاطب، ولها أقسام بحسب الوضع. والمجاز لغة: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في الاصطلاح الذي به التخاطب لعلاقة ما، وله أقسام. انظر الإيضاح 272-274.
[39335]:انظر البغوي 6/300.
[39336]:في ب: من. وهو تحريف.
[39337]:انظر الفخر الرازي 24/211.
[39338]:في ب: وهي.
[39339]:المحتسب 2/142.
[39340]:انظر البحر المحيط 7/92.
[39341]:انظر البحر المحيط 7/91-92.