البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ} (65)

قيل : سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وألحوا عليه ، فنزل : { قل لا يعلم من في السموات والأرض } ، الآية .

والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم ، والغيب مفعول ، وإلا الله استثناء منقطع لعدم اندراجه في مدلول لفظ من ، وجاء مرفوعاً على لغة تميم ، ودلت الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب .

وعن عائشة ، رضي الله عنها : من زعم أن محمداً يعلم ما في غد ، فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : { قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله } ، ولا يقال : إنه مندرج في مدلول من ، فيكون في السموات إشارة إلى ظرفاً حقيقياً للمخلوقين فيهما ، ومجازياً بالنسبة إليه تعالى ، أي هو فيها بعلمه ، لأن في ذلك جمعاً بين الحقيقة والمجاز ، وأكثر العلماء ينكر ذلك ، وإنكاره هو الصحيح .

ومن أجاز ذلك فيصح عنده أن يكون استثناء متصلاً ، وارتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب على الاستثناء ، لأنه استثناء من نفي متقدم ، والظاهر عموم الغيب .

وقيل : المراد غيب الساعة .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي ؟ يعني في كونه استثناء منقطعاً ، إذ ليس مندرجاً تحت من ، ولم أختر الرفع على لغة تميم ، ولم نختر النصب على لغة الحجاز ، قال : قلت : دعت إلى ذلك نكتة سرية ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني أن علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم .

كما أن معنى : ما في البيت إن كانت اليعافير أنيساً ، ففيها أنيس بناء للقول بخلوها عن الأنيس . انتهى .

وكان الزمخشري قد قدم قوله : فإن قلت : لم أرفع اسم الله ، والله سبحانه أن يكون ممن في السموات والأرض ؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، كان أحداً لم يذكر ، ومنه قوله :

عشية ما تغني الرماح مكانها *** ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقوله : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . انتهى .

وملخصه أنه يقول : لو نصب لكان مندرجاً تحت المستثنى منه ، وإذا رفع كان بدلاً ، والمبدل منه في نية الطرح ، فصار العامل كأنه مفرغ له ، لأن البدل على نية تكرار العامل ، فكأنه قيل : قل لا يعلم الغيب إلا الله .

ولو أعرب من مفعولاً ، والغيب يدل منه ، وإلا الله هو الفاعل ، أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلا الله ، أي الأشياء الغائبة التي تحدث في العالم ، وهم لا يعلمون بحدوثها ، أي لا يسبق علمهم بذلك ، لكان وجهاً حسناً ، وكان الله تعالى هو المخصوص بسابق علمه فيما يحدث في العالم .

وأيان : تقدم الكلام فيها في أواخر الأعراف ، وهي هنا اسم استفهام بمعنى متى ، وهي معمولة ليبعثون ويشعرون معلق ، والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به .

وقرأ السلمي : إيان ، بكسر الهمزة ، وهي لغة قبيلته بني سليم .

ولما نفى علم الغيب عنهم على العموم ، نفى عنهم هذا الغيب المخصوص ، وهو وقت الساعة والبعث ، فصار منتفياً مرتين ، إذ هو مندرج في عموم الغيب ومنصوص عليه بخصوصه .