قوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } يعني : في النار ، كقوله تعالى : { على ملك سليمان } أي : في ملك سليمان ، وقيل : عرضوا على النار ، وجواب { لو } محذوف معناه : لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا .
قوله تعالى : { فقالوا يا ليتنا نرد } ، يعني : إلى الدنيا .
قوله تعالى : { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } ، قراءة العامة كلها بالرفع على معنى : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ، ونكون من المؤمنين ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب ، { ولا نكذب } بنصب الباء والنون على جواب التمني ، أي : ليت ردنا وقع وأن لا نكذب ، ونكون ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء ، وقرأ ابن عامر { نكذب } بالرفع و { نكون } بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .
ومن شاء ان يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى :
( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ) !
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض !
( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) . .
لو ترى ذلك المشهد ! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي ! ولا يملكون الجدل والمغالطة !
لو ترى لرأيت ما يهول ! ولرأيتهم يقولون :
( يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ) . .
يعلمون الآن أنها كانت ( آيات ربنا ) ! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا . وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات ، وعندئذ سيكونون من المؤمنين !
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون !
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم . فهي جبلة لا تؤمن . وقولهم هذا عن أنفسهم : إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين ، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل ! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه ، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون ، وأنهم ناجون ، وأنهم مفلحون .
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك قالوا { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا على النار}، يعني كفار قريش هؤلاء الرؤساء تمنوا، {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا}، يعني: القرآن بأنه من الله، {ونكون من المؤمنين}، يعني المصدقين بالقرآن في قولهم: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَوْ تَرَى يا محمد هؤلاء العادلين بربهم الأصنام والأوثان الجاحدين نبوّتك الذين وصفت لك صفتهم، "إذْ وُقِفُوا": إذ حبسوا، "على النّارِ": في النار، فوضعت «على» موضع «في» كما قال: "وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سَلَيْمانَ "بمعنى في ملك سليمان. وقيل: "وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا" ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبل فيما مضى أن العرب قد تضع «إذ» مكان «إذا»، و«إذا» مكان «إذ»، وإن كان حظّ «إذ» أن تصاحب من الأخبار ما قد وجد فقضى، وحظّ «إذا» أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد... وقيل: «وُقِفوا» ولم يقل «أوقفوا»، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب، يقال: وقفت الدابة وغيرها بغير ألف إذا حبستها، وكذلك وقفت الأرض إذا جعلتها صدقة حبيسا، بغير ألف. "فَقَالُوا يا لَيْتَنَا نُرَدّ": فقال هؤلاء المشركون بربهم إذ حبسوا في النار: يا ليتنا نردّ إلى الدنيا حتى نتوب ونراجع طاعة الله، "وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا": ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها، "وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ": ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله، متبعي أمره ونهيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراقيين: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونُ مِنَ المُؤْمِنِينَ» بمعنى: يا ليتنا نردّ، ولسنا نكذّب بآيات ربنا ولكن نكون من المؤمنين. وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة: "يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ" بمعنى يا ليتنا نردّ، وأن لا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.
وذكر عن بعض قرّاء أهل الشام أنه قرأ ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبُ» بالرفع "ونَكُونَ" بالنصب. كأنه وجه تأويله إلى أنهم تمنوا الردّ وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا أنهم لا يكذّبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا.
واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبا ومرفوعا، فقال بعض نحويي البصرة: "وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ" نصب لأنه جواب للتمني، وما بعد الواو كما بعد الفاء. قال: وإن شئت رفعت وجعلته على غير التمني، كأنهم قالوا: ولا نكذّب والله بآيات ربنا، ونكون والله من المؤمنين هذا إذا كان على ذا الوجه كان منقطعا من الأوّل. قال: والرفع وجه الكلام، لأنه إذا نصب جعلها واو عطف، فإذا جعلها واو عطف، فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا والله أعلم لا يكون، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الردّ، وأخبروا أنهم لا يكذّبون ويكونون من المؤمنين. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب «نكذّب» و «نكون» على الجواب بالواو لكان صوابا قال: والعرب تجيب بالواو و«ثم»، كما تجيب بالفاء، يقولون: ليت لي مالاً فأعطيك، وليت لي مالاً وأعطيك وثم أعطيك. قال: وقد تكون نصبا على الصرف، كقولك: لا يسعني شيء ويعجز عنك.
وقال آخر منهم: لا أحبّ النصب في هذا، لأنه ليس بتمنّ منهم، إنما هو خبر أخبروا به عن أنفسهم ألا ترى أن الله تعالى قد كذبهم فقال: "وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ" وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمني. وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب بالواو، وبحرف غير الفاء، وكان يقول: إنما الواو موضع حال، لا يسعني شيء ويضيق عنك: أي وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصرف في جميع العربية. قال: وأما الفاء فجواب جزاء، ما قمت فآتيك: أي لو قمت لأتيناك. قال: فهذا حكم الصرف والفاء. قال: وأما قوله: "وَلا نُكَذّبَ ونكُونَ" فإنما جاز، لأنهم قالوا: "يا ليتنا نردّ" في غير الحال التي وقُفِنْا فيها على النار، فكان وقفهم في تلك، فتمنوا أن لا يكونوا وقفوا في تلك الحالة. وكأن معنىّ صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وُقِفوا على النار، فقالوا: قد وقفنا عليها مكذّبين بآيات ربنا كفارا، فيا ليتنا نردّ إليها فنوقف عليها غير مكذّبين بآيات ربنا ولا كفارا. وهذا تأويل يدفعه ظاهر التنزيل، وذلك قول الله تعالى: "وَلَوْ رُدّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإنّهُم لكاذِبُونَ" فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة، والتكذيب لا يقع في التمني، ولكن صاحب هذه المقالة أظنّ به أنه لم يتدبر التأويل ولزم سنن العربية. والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ» بالرفع في كليهما، بمعنى: يا ليتنا نردّ، ولسنا نكذّب بآيات ربنا إن رددنا، ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردّوا إلى الدنيا، لا على التمني منهم أن لا يكذّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني لاستحال تكذيبهم فيه، لأن التمني لا يكذّب، وإنما يكون التصديق والتكذيب في الأخبار. وأما النصب في ذلك، فإني أظنّ بقارئه أنه برجاء تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه، وذلك قراءته ذلك: «يا لَيْتَنا نُرَدّ فَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ» على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء كذلك لا شكّ في صحة إعرابه، ومعناه في ذلك أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنا رُددنا إلى الدنيا ما كذّبنا بآيات ربنا، ولكنا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَي عن العرب من السماء منهم الجواب بالواو و«ثم» كهئية الجواب بالفاء صحيحا، فلا شكّ في صحة قراءة من قرأ ذلك: يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا وَنَكُونَ نصبا على جواب التمني بالواو، على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء، وإلا فإن القراءة بذلك بعيدة المعنى من تأويل التنزيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تمنوا عند معاينتهم العذاب العود والرد. ثم فيه دليلان: أحدهما: أنهم عرفوا أن ما أصابهم بتكذيبهم الآيات وتركهم الإيمان حين قالوا: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا}. والثاني: أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير لأنهم فزعوا عند معاينتهم العذاب، تمنوا الرد والعود إلى الدنيا أن يكونوا من المؤمنين، لم يفزعوا إلى شيء آخر من الخيرات. دل أن الإيمان هو التصديق الفرد لا غير، وأنه ضد التكذيب. والتكذيب هو فرد. فعلى ذلك التصديق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ تَرَى} جوابه محذوف تقديره: ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً {وُقِفُواْ عَلَى النار}: أروها حتى يعاينوها، أو اطلعوا عليها اطلاعاً هي تحتهم، أو أدخلوها فعرفوا مقدار
عذابها من قولك: وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته.
{يا ليتنا نُرَدُّ} تم تمنيهم، ثم ابتدأوا {وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجواب {لو} محذوف، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولاً أو مشقات أو نحو هذا، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله، ووقعت {إذ} في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع. و {وقفوا} معناه: حبسوا، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا ووقفت غيري، وقال الزهراوي: وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفاً وفي غير المتعدي وقفت وقوفاًَ، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً، ويحتمل قوله: {وقفوا على النار} أن يكون دخلوها، فكان وقوفهم عليها أي فيها، قاله الطبري، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «ولا نكذبُ» و «نكونُ» بالرفع في كلها، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون» أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك: دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون» داخلاً في التمني على حد ما دخلت في نرد، كأنهم قالوا: يا ليتنا نرد وليتنا نكذب وليتنا نكون، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئاً يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر.
أما قوله تعالى: {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} ففيه مسائل: المسألة الأولى: {يا ليتنا نرد} يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا. فأما قوله {ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين. فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية {وإنهم لكاذبون} والمتمني لا يوصف بكونه كاذبا. قلنا: لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذبا لأن من أظهر التمني، فقد أخبر ضمنا كونه مريدا لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه،... القول الثاني: أن التمني تم عند قوله {يا ليتنا نرد} وأما قوله {ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية {وإنهم لكاذبون} عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين، ثم إنه تعالى كذبهم وبين أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان...
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني. وأما أن المتمني كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره. وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع {ولا نكذب} وينصب {ونكون} فالتقدير: أنه يجعل قوله {ولا نكذب} داخلا في التمني، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية وما أوردوا ما يشفى، فراجع أقوالهم تجدها لا تشفى عليلا، ولا تروي غليلا. ومعنى الآية أجل وأعظم مما فسروها به، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب، بل ولا للأمر الذي بدا لهم، وكانوا يخفونه وطنوا أن الذي بدا لهم العذاب. فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله: {ما كانوا يخفون من قبل} قدروا مضافا محذوفا، وهو خبر ما كانوا يخفون من قبل فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه، وهو: أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم، بل كانوا يظهرونه، ويدعون إليه، ويحاربون عليه. ولما علموا أن هذا وارد عليهم، قالوا: إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه، وقالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه...
وأجود من هذا: ما فهمه المبرد من الآية، قال: كأن كفرهم لم يكن باديا لهم، إذا خفيت عليهم مضرته. ومعنى كلامه: أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله، فكأنه كان خفيا عنهم، لم تظهر لهم حقيقته، فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره. قال: وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل: وقد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك. وقد كان ظاهرا له قبل هذا. ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رءوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه، لخفاء عاقبته عنهم. ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد، وقتل النفوس وسعى في الأرض بالفساد: أنه أخفى ذلك، لجهله بسوء عاقبته، وخفائها عليه فمعنى الآية -والله أعلم بما أراد من كلامه -: أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها، وعلموا أنهم داخلوها، تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته، ولا يعودون إلى تكذيب رسله، فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك، وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم: أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا...
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الإضراب؛ ببل وتبين معنى الذي بدا لهم، والذي كانوا يخفونه، والحامل لهم على قولهم: {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} [الأنعام: 27] فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله، وتيقنوا ذلك وتحققوه، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم، بل تواصوا بكتمانه، فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه. وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل، وأن الرسل على الحق، فعاينوا ذلك عيانا، بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه، فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب، فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق، وأن الشرك باطل، وإنما تمنوه لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله، وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته، وهو يعلم أن حبه باطل، وأن الرشد في عدوله عنه، فقيل له: إن اطلع عليه وليه عاقبك، وهو يعلم ذلك ويكابر، ويقول: بل محبته ومعاشرته هي الصواب، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة، بل بعد أن مسته وأنهكته، فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه، وصواب ما نهاه عنه، ولو رد لعاد لما نُهي عنه. وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى، وهو نفي قولهم: إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا؛ لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق، أي ليس كذلك، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه، وكنتم تخفونه، فلم يظهر لكم شيء لتكونوا عالمين به لتعذروا، بل ظهر لكم ما كان معلوما، وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه. والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما جعل عدم إيمانهم في هذه بشيء من الآيات موصلاً لهم إلى غاية من الجهل عظيمة موئسة من ادعائهم في هذه الدار، وهي مجادلتهم له صلى الله عليه وسلم، وختم الآية بما رأيت من عظيم التهديد استشرفت النفس إلى معرفة حالهم عند ردهم إلى الله تعالى والكشف لهم عما هددوا به، فأعلم نبيهم صلى الله عليه وسلم أن حالهم إذ ذاك الإيمان، حيث يسر غاية السرور تصديقهم له، وتمنيهم متابعته لما يركبهم من الذل ويحيط بهم من الصغار، ولا يزيدهم ذلك إلاّ ضرراً وعمى وندماً وحسرة، فكأنه قيل: فلو رأيت حالهم عند كشف الغطاء -وهو المطلع- لرأيتهم يؤمنون: {ولو ترى إذ} أي حين {وقفوا} في الحشر، و بني للمجهول لأن المنكىّ الإيقاف، لا كونه من معين {على النار} أي عندها ليدخلوها مشرفين على كل ما فيها من أنواع النكال، وذلك أعظم في النكاية أو على الجسر وهو على الصراط وهي تحتهم، أو عرفوا حقيقتها ومقدار عذابها من قولك: أوقفته على كذا -إذا عرفته إياه {فقالوا} تمنياً للمحال {يا ليتنا نرد} أي إلى الدنيا. ولما كان التقدير بشهادة قراءة من نصب الفعلين- جواباً للتمني -أو أحدهما: فنطيع، عطف على الجملة قوله: {ولا} أي والحال أنا لا، أو ونحن لا {نكذب} إن رددنا {بآيات ربنا} أي المحسن إلينا {ونكون من المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، والتقدير عند ابن عامر في نصب الثالث: ليتنا نرد، وليتنا لا نكذب فنسعد وأن نكون، وعلى قراءة حمزة والكسائي وحفص بنصب الفعلين: ليتنا نرد فنسعد، وأن لا نكذب وأن نكون، والمعنى: لو رأيت إيقافهم ووقوفهم في ذلك الذل والانكسار والخزي والعار وسؤالهم وجوابهم لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً ومنظراً كريهاً شنيعاً، ولكنه حذف تفخيماً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، وجاز حذفه للعلم به في الجملة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين الله تعالى لنا في الآيتين اللتين قبل هاتين حال من فقدوا الاستعداد للإيمان من المشركين الظالمين لأنفسهم، وخص بالذكر طائفة منهم وهي التي تلقي السمع مصغية للقرآن ولا يدخل من باب سمعها إلى بيت قلبها شيء منه، لما على القلب من أكنة التقليد، والاطمئنان بالشرك التليد، والاستنكار لكل شيء جديد؛ فهم يستمعون ولا يسمعون، ولا يكتفون بذلك بل ينهون عنه وينأون وهم ناؤون منتهون، وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون. ثم بين في هاتين الآيتين بعض ما يكون من أمرهم وأمر أمثالهم يوم القيامة، وقفى عليه ببيان كنه حالهم في فقد الاستعداد للإيمان، وأنه بلغ مبلغا لا يؤثر فيه كشف الغطاء ورؤية العيان، فقال عز من قائل:
{ولو ترى إذ وقفوا على النار} {لو} شرطية حذف جوابها لتذهب النفس في تصوره كل مذهب، وذلك أبلغ من ذكره، ومنه المثل « ولو غير ذات سوار لطمتني» و « وقفوا» بالبناء للمفعول أي وقفهم غيرهم، يقال: وقف الرجل على الأرض وقوفا، ووقف على الأطلال أي عندها مشرفا عليها، أو قاصرا همه عليها – وعلى الشيء: عرفه وتبينه. ووقف نفسه على كذا وقفا: حبسها كوقف العقار على الفقراء، ووقف الدابة وقفا جعلها تقف. والمعنى ولو ترى أيها الرسول – أو أيها السامع – بعينيك هؤلاء الضالين المكذبين إذ تقفهم ملائكة العذاب على النار فيقفون عندها مشرفين عليها من أرض الموقف – وهي هاوية سحيقة، أو مقصورين عليها لا يتعدونها – أو يقفون فوقها على الصراط؛ أو لو ترى إذ يدخلونها فيقفون على ما فيها من العذاب الأليم بذوقهم إياه و « من ذاق عرف» – أي لو ترى ما يحل بهم حينئذ وما يكون من أمرهم ومن ندمهم على كفرهم ومن حسرتهم وتمنيهم ما لا ينال – لرأيت أمرا عظيما لا تدركه العبارة ولا يحيط به الوصف.
وقد ذكر ما يكون من وقفهم على النار وما يترتب عليه من قولهم بصيغة الماضي الواقع في حيز فعل الشرط المستقبل للإعلام بتحقق وقوعه، على القول المشهور في مثله، وقال الرازي في تعليله: إن كلمة « إذ» تقام مقام « إذا» إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار.
وأما قوله تعالى: {فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27)} فقد عطف بالفاء للدلالة على أن أول شيء يقع حينئذ في قلوبهم، ويسبق التعبير عنه إلى ألسنتهم، هو الندم على ما سلف منهم، وتمني الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا. اختلف القراء في إعراب « نكذب ونكون» فرفعهما الجمهور ونصبها حمزة وحفص عن عاصم، ونصب ابن عامر « نكون» فقط. فقراءة الجمهور بالعطف على (نرد) تفيد أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا، وأن لا يكذبوا بعد عودتهم إليها بآيات ربهم كما كذبوا من قبل، وأن يكونوا من المؤمنين بما جاء به الرسول، أي تمنوا هذه الثلاثة، وقيل بل تمنوا الأول فقط.
وقوله: {ولا نكذب} الخ معناه ونحن لا نكذب الخ وعلى هذا يكون الإيمان وعدم التكذيب غير داخلين في التمني، وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود. وهو طلب للترك فقط، والوعد بعدم العود مستأنف مقطوع عما قبله، والتقدير: وأنا لا أعود تركتني أم لم تتركني. وفيه وجه ثالث وهو أن قوله: {ولا نكذب} جملة حالية قال الزمخشري: على معنى غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل في حكم التمني. اه.
وقد يتوهم أن دخوله في حكم التمني يجعله بمعنى الوجه الأول وليس كذلك، فإن معنى الوجه الأول أنهم يتمنون الرد وعدم التكذيب والإيمان على سواء، ومعنى الثاني أنهم يتمنون الرد فقط ويعدون بالإيمان وعدم التكذيب وعدا خبريا مؤكدا غير مقيد بإجابتهم إلى ما يتمنون. وأما إذا جعلنا {ولا نكذب} الخ جملة حالية – وهو الوجه الثالث – فإنها تصدق بحصول كل من عدم التكذيب والإيمان قبل الرد إلى الدنيا. فلا يكون التمني متعلقا بهما لذاتهما لأنهما حاصلان والحاصل لا يتمنى، وإنما يكون متعلقا بالرد المصاحب لهما، الذي تمنى وقوعه بعد وقوعهما، وذلك وعد غير خبري ولا إنشائي بهما، لأن الحاصل لا يوعد به كما أنه لا يتمنى.
وقد بينا في تفسير {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] – الآية – الفرق بين الحال المفردة والجملة الحالية، وأن الأصل في مضمون الجملة الحالية أن يكون سابقا للفعل العامل في الحال. وهؤلاء رجعوا عن التكذيب عند وقفهم على النار وحصل لهم الإيمان القاطع بصدق الرسول فتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا مصاحبين لذلك، فيصح أن يقال في الجملة إن عدم التكذيب والإيمان داخلان تحت حكم التمني من حيث اشتراطهما فيه، لا أنهما متمنيان كالرد سواء.
وأما قراءة حمزة وحفص بنصب الفعلين فقيل إنه على جواب التمني وقيل إن الواو للحال كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل إنها أجريت مجرى فاء السببية أو أبدلت منها وأيدوه بقراءة ابن مسعود « فلا نكذب» وقيل إن العطف على مصدر متوهم أي يا ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين. فعلى التوجيهين الأولين لهذه القراءة يدخل ما ذكر في حكم التمني على الوجه الذي وجهنا به جعل الجملة حالية في قراءة الجمهور وظاهر التوجيه الثالث تعلق التمني بالأمور الثلاثة على سواء، وقد علم من توجيه هذه القراءة توجيه قراءة ابن عامر أيضا. ولعل حكمة اختلاف القراءات بيان اختلاف أحوال أولئك المشركين في تمنيهم: بأن يكون منهم من يتمنى أن يرد إلى الدنيا وأن يكون فيها غير مكذب بآيات الله الكونية والمنزلة وأن يكون من المؤمنين، ومنهم من يتمنى الرد مصاحبا لما حدث له في الآخرة من الندم على التكذيب ومن الإيمان بما جاء به الرسول إذ لا تلازم بين الرد وبقاء ذلك الأمر الحادث، ومنهم من يتمناه ليكون سببا للإيمان وعدم التكذيب، ومنهم من يعد بذلك وعدا، وهذا الاختلاف في كيفيات ذلك التمني أقرب إلى الحصول من اتفاق أولئك الكفار الكثيرين على كيفية واحدة مما يدل عليه اختلاف القراءات، لأنه هو المعهود من البشر. ولعلهم يتمنون ذلك جاهلين أنه محال، على أن الناس يتمنون المحال ولو على سبيل التحسر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولو ترى إذ وقفوا على النار).. لو ترى ذلك المشهد! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي! ولا يملكون الجدل والمغالطة! لو ترى لرأيت ما يهول! ولرأيتهم يقولون: (يا ليتنا نرد، ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين)..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي الآية الكريمة إشارات بيانية بذكرها نقرب ما في الآية من بلاغة رائعة. الأولى: التعبير ب (إذ) التي تدل على الماضي بدل (إذا) التي تدل على المستقبل وذلك لتأكيد الوقوع ولتستبين المستقبل حاضرا قائما، ويتصور على أساس أنه موجود لا على أنه سيوجد.
الثانية: أنه عبر ب (على) بدل (في) للإشارة إلى أن مجرد الاطلاع عليها، والعلم بها بالعيان يلقي في النفس بهولها، وشدتها، فما بالك بالوقوع فيها. الثالثة: أن (لو) شرطية والجواب محذوف وتقديره لو رأيتهم في هول وفزع وشدة فتمنوا أن يعودوا ويصلحوا.
الرابعة: أن التمني كان بالنداء لصيغته وهي (ليت) كأنه يقول: (يا ليت) أقبلي فهذا وقتك الذي نستغيث بك فيه، إذ لا نملك إلا التمني فهو أداتنا الوحيدة وإن كانت أداة العاجزين.
الخامسة، أن قوله تعالى: (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فيه قراءتان إحداهما بنصب الباء والنون على أنها جواب التمني بإضمار محذوفه والثانية بضمها على تقدير محذوف وتقدير الكلام هكذا: ليتنا نرد ونحن لا نكذب ونكون أول المؤمنين ويكون فيها فضل توكيد بذكر وعدهم بعدم التكذيب وبأن يكونوا من المؤمنين.
السادسة: توكيد إيمانهم يخرجون من صف أهل الشرك والكفر إلى صف المؤمنين الصادقين
عندما ننظر إلى قول الحق: {ولو ترى إذ وقفوا على النار}، هنا لا نجد جوابا، مثل ما تجده في قولك: لو رأيت فلانا لرحبت به أو لو رأيت فلانا لعاقبته. إن في كل من هاتين الجملتين جوابا، لكن في هذا القول الكريم لا نجد جوابا، وهذا من عظمة الأداء القرآني؛ فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها. وفي حياتنا نجد مجرما في بلد من البلاد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلا وتعذيبا وسرقة واعتداءات، ولا أحد يقدر عليه أبدا، ثم يمكن الله لرجال الأمن أن يقبضوا عليه، فنرى هذا القاتل المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى لا يضع القيود في يديه. ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للآخرين قائلا: آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا المجرم، وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع، إذن فحذف الجواب دائما تربيب لفائدة الجواب، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب. لأن المشاهد لو شاء لحكى ما حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى هو، ويحجب بذلك تخيل وتصور السامعين. أما اكتفاء المشاهد بقوله: آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم.. فهذا القول يعمم ما يرى حتى يتصور كل سامع من صور الإذلال ما يناسب قدرة خياله على التصور. وهكذا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق (لو) بلا جواب حين قال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27)} (سورة الأنعام)...
وهم قالوا: {يا ليتنا نرد} فإن كانوا قالوا هذا تمنيا فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضا وعدا بعدم التكذيب بآيات الله، فهل هم قادرون على ذلك؟ لا؛ لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)}...