قوله : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } الآية [ 28 ] .
من قرأ برفع ( نكذبُ ) و( نكونُ ){[19515]} فعلى القطع ، ( أي : يا ليتنا ){[19516]} نرد ، ثم ابتدأ على معنى : ونحن لا نكذب{[19517]} . هذا قول سيبويه{[19518]} ، والمعنى عنده : ونحن لا نكذب رُددنا أو لم نُردّ ، فإنما سألوا الرد وقد أوجبوا على أنفسهم أنهم لا يعودون للتكذيب ألبتة ، رُدوا أو لم يُردّوا{[19519]} ، ومثله عند سيبويه : ( دعني ولا أعود ) : أي : وأنا لا أعود{[19520]} . تركتني أو لم تتركني{[19521]} .
ومن نصب{[19522]} فإنما أراد أن يكون ( رد ) يتبعه{[19523]} ترك عودة ، كأنه في المعنى : إن رُددنا لم نعد للتكذيب{[19524]} . ومثله : ( زرني وأزورك ) ، ( أي ، لتكن منك ){[19525]} زيارة وأن أزورك ، ولو رفعت لكان المعنى : وأنا أزورُك ، زُرتَني أو لم تزرْني{[19526]} .
ووجه آخر في الرفع ، وهو أن يكون معطوفاً على ( نُرد ){[19527]} ، كأنهم تمنوا أن يردوا ، وتمنوا ( ألا ){[19528]} يكذبوا{[19529]} /{[19530]} وأن يكونوا من المؤمنين{[19531]} . والأول أحسن ، لأنهم لم يتمنوا هذا ، إنما تمنوا الرد وادعوا أنهم إذا رُدوا لم يكذبوا وكانوا من المؤمنين{[19532]} .
( والنصب ){[19533]} على جواب التمني ، كأنه : يا ليتنا وقع لنا الردّ و( ألا ){[19534]} نكذب ، فالواو{[19535]} في جواب التمني كالفاء{[19536]} ، وقيل : المعنى في الرفع : لا نكذب والله ونكون{[19537]} – والله – من المؤمنين ، وهو أيضا منقطع{[19538]} .
وأنكر جماعة النصب ، وقالوا : هو خبر أخبروا به عن أنفسهم ، ألا ترى أن الله كذبهم فيما أخبروا به ، والكذب لا يقع إلا في جواب الخبر{[19539]} .
وأنكر بعض النحويين أن يكون الجواب للتمني{[19540]} بالواو ، وقالوا : إنما يكون بالفاء{[19541]} .
وأجاز أبو إسحاق أن يكون التمني داخلا في الخبر ، قال : لأن الرجل الفاسق ( يقول ){[19542]} : ( ليتني في الجنة ) ، فيقال له : كذبت ، لو أردت ذلك لاتقيت{[19543]} الله{[19544]} .
وقد قيل : إنه منصوب على الظرف{[19545]} ، وإن معنى الكلام : أنهم تمنوا أن يوقفوا ( ( وهم ){[19546]} غير مكذبين ، لأنهم وقفوا مكذبين ، فتمنوا أن يوقفوا{[19547]} ) على غير تلك الحال{[19548]} .
( والآية ){[19549]} عند أبي عمرو{[19550]} على التمني ، ولا يجوز فيه صدق ( ولا ){[19551]} كذب{[19552]} ، وإنما كذب{[19553]} الله خبرهم ، لا تمنيهم{[19554]} ، وخبرهم هول قولهم : ( ولا نكذب ) ، ( ونكون ) ، ( إن رددنا ){[19555]} فعلنا ذلك ، فهذا خبر ، فأكذبهم الله في ذلك الخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم ، لا في تمنيهم{[19556]} .
أو يكون المعنى – على الرفع – ( ولا نكذبُ ) ، ( ونكونُ ) : أي : نفعل{[19557]} ذلك ، رُددنا أو لم نُردّ ، فهذا خبر منهم ، فأكذبهم الله في ذلك ، التكذيبُ إنما هو للخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم ، لا للتمني{[19558]} .
وقال بعض النحويين : إنما يكون هذان{[19559]} الفعلان – في حال النصب – غير متمَّنْين{[19560]} إذا كانا{[19561]} جواباً لما في ( ليتنا ){[19562]} ، وتكون{[19563]} الواو الأولى بمعنى الفاء . فأما إن كانت الواو على جهتها ، ونصبت على الظرف{[19564]} منويا{[19565]} به الحال ، فالفعلان متمنَّيان{[19566]} ، والتكذيب للتمني{[19567]} وقع{[19568]} .
ومن قرأ ( ولا نكذّبُ ) بالرفع ، ونصب ( ونكونَ ){[19569]} ، فالمعنى : أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا{[19570]} .
قوله { ولو ترى } فعل منتظر{[19571]} ، وقوله و{ إذ وقفوا } : فعلان ماضيان ، وكذلك { فقالوا } ، وكلها منتظرة لم تقع . وهو حسنٌ لطيف{[19572]} فصيح ، غاية في البلاغة ، لأن كل ما هو كائن – ولم يكن بعد – فهو عند الله بمنزلة ما قد كان ، لصحة{[19573]} وقوعه على ما أخبر{[19574]} به عنه ، ولنفوذ حكم الله به ، وتقديره لوقوعه على ما أخبر به ، فالكائن وغير الكائن سواء في علم الله .
وقوله { وقفوا } بمعنى : حُبسوا ، و{ على النار } بمعنى ( في النار ) ، بمنزلة قوله : { على ملك سليمان }{[19575]} أي : في ملكه{[19576]} . وقيل : معنى { وقفوا على النار } : أُدخلوها ، كما تقول : ( قد وقفت على ما عندك ) ، أي : عَرفتُ حقيقته{[19577]} . وقيل : أوها{[19578]} . وقيل : رأوها{[19579]} . وقيل : جازوا عليها{[19580]} .
و{ إذ } بمعنى ( إذا ) ، لأنه خبر لا بد أن يكون ، فصار بمنزلة ما قد كان{[19581]} . يقال : ( وقفتُ وقفاً للمساكين ){[19582]} و( وقفتُ أنا ) ، ( وقِفْ ){[19583]} دابتك{[19584]} يا رجلُ{[19585]} .
و{[19586]} حكي عن أبي عمرو{[19587]} أنه قال : ما علمت أحداً من العرب يقول : ( أوقفتُ الشيء ) بالألف ، إلا أني لو رأيت رجلاً في مكان فقلت له : ( ما أوقفك ها هنا ؟ ) بالألف ، لرأيته حسناً{[19588]} . وفي الآية معنى التعظيم لما هم فيه .