الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (27)

قوله تعالى : " ولو ترى إذ وقفوا على النار " أي إذ{[6298]} وقفوا غدا و( إذ ) قد تستعمل في موضع ( إذا ) و( إذا ) في موضع ( إذ ) وما سيكون فكأنه كان ؛ لأن خبر الله تعالى حق وصدق ، فلهذا عبر بالماضي . ومعنى ( إذ وقفوا ) حبسوا يقال : وقفته وقفا فوقف وقوفا . وقرأ ابن السميقع ( إذ وقفوا ) بفتح الواو والقاف من الوقوف . " على النار " أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم . وقيل : ( على ) بمعنى الباء ، أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها . وقال الضحاك : جمعوا ، يعني على أبوابها . ويقال : وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم . وفي الخبر : أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة{[6299]} ، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي . وقيل : ( وقفوا ) دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى ( في ) أي وقفوا في النار . وجواب ( لو ) محذوف ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أبلغ في التخويف ، والمعنى : لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال ، أو لرأيت منظرا هائلا ، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير .

قوله تعالى : " فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " بالرفع في الأفعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي ؛ وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم{[6300]} . ابن عامر على رفع ( نكذب ) ونصب ( ونكون ) وكله داخل في معنى التمني ، أي لا تمنوا الرد وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين . واختار سيبويه القطع في ( ولا نكذب ) فيكون غير داخل في التمني ، المعنى : ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب ، أي لا نكذب رددنا أو لم نرد . قال سيبويه : وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني . واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله : " وإنهم لكاذبون " لأن الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر . وقال من جعله داخلا في التمني : المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل . وقرأ حمزة وحفص بنصب ( نكذب ) و( نكون ) جوابا للتمني ؛ لأنه غير واجب ، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين . قال أبو إسحاق : معنى ( ولا نكذب ) أي إن رددنا لم نكذب . والنصب في ( الكذب ) و( نكون ) بإضمار ( أن ) كما ينصب في جواب الاستفهام والأمر والنهي والعرض ؛ لأن جميعه غير واجب ولا واقع بعد ، فينصب ، الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول ، كأنهم قالوا : يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب ، وكون من المؤمنين ، فحملا على مصدر ( نرد ) لانقلاب المعنى إلى الرفع ، ولم يكن بد من إضمار ( أن ) فيه يتم النصب في الفعلين . وقرأ ابن عامر ( ونكون ) بالنصب على جواب التمني كقولك : ليتك تصير إلينا ونكرمك ، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع ، وأدخل الفعلين الأولين في التمني ، أو أراد : ونحن لا نكرمك{[6301]} على القطع على ما تقدم ؛ يحتمل . وقرأ أبي{[6302]} ( ولا نكذب بآيات ربنا أبدا ) . وعنه وابن مسعود ( يا ليتنا نرد فلا نكذب ) بالفاء والنصب ، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو ، عن الزجاج . وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء .


[6298]:من ب و ج و ع و ي.
[6299]:الإهالة الشحم المذاب، ومتن الإهالة ظهرها إذا سكبت في الإناء، فشبه سكون جهنم قبل أن يصير فيها الكفار بذلك. "اللسان".
[6300]:أي بالرفع في كلها كما في ابن عطية.
[6301]:في ك.
[6302]:كذا في الأصول، والذي في البحر: وقرأ أبي "فلا نكذب بآيات ربنا أبدا".