مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (27)

قوله تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين }

اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل :

المسألة الأولى : قوله { ولو ترى } يقتضي جوابا وقد حذف تفخيما للأمر وتعظيما للشأن ، وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر . ولو قدرت الجواب ، كان التقدير : لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ، ألا ترى : أنك لو قلت لغلامك ، والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه ، من الضرب ، والقتل ، والكسر ، وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي . ولو قلت : والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب ، لعلم أنك لم تبلغ شيئا غير الضرب ، ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه ، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيرا في حصول الخوف . ومنهم من قال جواب { لو } مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب .

المسألة الثانية : قوله { وقفوا } يقال وقفته وقفا ، ووقفته وقوفا ، كما يقال رجعته رجوعا . قال الزجاج : ومعنى { وقفوا على النار } يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار . والثاني : يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم ، بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط ، وهو جسر فوق جهنم . والثالث : معناه عرفوا حقيقتها تعريفا من قولك وقفت فلانا على كلام فلان ؛ أي علمته معناه وعرفته ، وفيه وجه رابع : وهم أنهم يكونون في جوف النار ، وتكون النار محيطة بهم ، ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم ( على ) مقام ( في ) وإنما صح على هذا التقدير ، أن يقال : وقفوا على النار ، لأن النار دركات وطبقات ، وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء .

فإن قيل : فلماذا قال { ولو ترى } ؟ وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذ وقفوا وكلمة { إذ } للماضي ثم قال بعده ، فقالوا وهو يدل على الماضي .

قلنا : أن كلمة ( إذ ) تقام مقام ( إذا ) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد ، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر ، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي ، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار .

المسألة الثالثة : قال الزجاج : الأمالة في النار حسنة جيدة ، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء ، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين .

أما قوله تعالى : { فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بئايات ربنا ونكون من المؤمنين } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : { يا ليتنا نرد } يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا . فأما قوله { ولا نكذب بئايات ربنا ونكون من المؤمنين } ففيه قولان : أحدهما : أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين .

فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية { وإنهم لكاذبون } والمتمني لا يوصف بكونه كاذبا .

قلنا : لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذبا لأن من أظهر التمني ، فقد أخبر ضمنا كونه مريدا لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ، ومثاله أن يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك ، فهذا تمن في حكم الوعد ، فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده .

القول الثاني : أن التمني تم عند قوله { يا ليتنا نرد } وأما قوله { ولا نكذب بئايات ربنا ونكون من المؤمنين } فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية { وإنهم لكاذبون } عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد ، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ، ثم إنه تعالى كذبهم وبين أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان .

المسألة الثانية : قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع فيهما ونكون بالنصب ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نرد بالرفع ، ونكذب ونكون بالنصب فيهما ، والباقون بالرفع في الثلاثة ، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله { نرد } وذلك لأنه داخل في التمني لا محالة ، فأما الذين رفعوا قوله { ولا نكذب ونكون } ففيه وجهان : الأول : أن يكون معطوفا على قوله { نرد } فتكون الثلاثة داخل في التمني ، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين .

والوجه الثاني : أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول ، فيكون التقدير : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد . والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبدا . قال سيبويه : وهو مثل قولك دعني ولا أعود ، فهاهنا المطلوب بالسؤال تركه . فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب ، فكذا هنا قوله { يا ليتنا نرد } الداخل في هذا التمني الرد ، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني ، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل ، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا : الوجه الثاني أقوى ، وهو أن يكون الرد داخلا في التمني ، ويكون ما بعده إخبارا محضا . واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال : { وإنهم لكاذبون } والمتمني لا يجوز تكذيبه ، وهذا اختيار أبي عمرو . وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة ، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة ، وذكرنا أنها ليست قوية ، وأما من قرأ { ولا نكذب ونكون } بالنصب ففيه وجوه : الأول : بإضمار ( أن ) على جواب التمني ، والتقدير : يا ليتنا نرد وأن لا نكذب . والثاني : أن تكون الواو مبدلة من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نرد فلا نكذب ، فتكون الواو هاهنا بمنزلة الفاء في قوله { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ { فلا نكذب } بالفاء على النصب ، والثالث : أن يكون معناه الحال ، والتقدير : يا ليتنا نرد غير مكذبين ، كما تقول العرب - لا تأكل السمك وتشرب اللبن - أي لا تأكل السمك شاربا للبن .

واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني . وأما أن المتمني كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره . وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع { ولا نكذب } وينصب { ونكون } فالتقدير : أنه يجعل قوله { ولا نكذب } داخلا في التمني ، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله { فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب } لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف ، لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال ، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى . والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات . ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات ، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدنيا فقط ، ولا بترك التكذيب ، و لا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني .

فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل البتة .

والجواب من وجوه : الأول : لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل . والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل ؛ إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى : { يريدون أن يخرجوا من النار } وكقوله { أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل ، فبأن يتمنوه أقرب ، لأن باب التمني أوسع ، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية .