قوله تعالى : { فإذا جاء وعد أولاهما } ، يعني : أولى المرتين . قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة ، وركبوا المحارم . وقال ابن إسحاق إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي . { بعثنا عليكم عباداً لنا } ، قال قتادة يعني جالوت الخزري وجنوده ، وهو الذي قتله داود . وقال سعيد بن جبير : يعني سنجاريب من أهل نينوى . وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه . وهو الأظهر . { أولي بأس } ، ذوي بطش ، { شديد } ، في الحرب ، { فجاسوا } ، أي : فطافوا وداروا ، { خلال الديار } ، وسطها يطلبونكم ويقتلونكم ، والجوس طلب الشيء بالاستقصاء . قال الفراء : جاسوا قتلوكم بين بيوتكم . { وكان وعداً مفعولاً } ، قضاء كائناً لا خلف فيه .
( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وكان وعدا مفعولا ) .
فهذه هي الأولى : يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها . فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة ، يستبيحون الديار ، ويروحون فيها ويغدون باستهتار ، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب )وكان وعدا مفعولا )لا يخلف ولا يكذب .
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي : أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : سلطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأس شديد ، أي : قوة وعدة وسلطة{[17232]} شديدة { فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ } أي : تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي : بينها ووسطها ، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا { وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا }
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم : من هم ؟ فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك . وقتل داود جالوت ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا }وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده . وعنه أيضًا ، وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل .
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال ، إلى أن ملك البلاد ، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس ، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل .
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا{[17232]} وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ! والعجب كل العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره ! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي ، رحمه الله ، بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب .
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو موضوع ، من وضع [ بعض ]{[2]} زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا ، ونحن في غُنْيَة عنها ، ولله الحمد . وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم . وقد أخبر الله تعالى أنهم لما بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بَيْضَتَهم ، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم ، جزاء وفاقًا ، وما ربك بظلام للعبيد ؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء .
وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بُختنَصَّر على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا ، فسألهم : ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر . قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم ، فسكن{[3]} .
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور ، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها . ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته ، والله أعلم .
وأما قوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني : فإذا جاء وعد أولى المرّتين اللتين يفسدون بهما في الأرض كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما قال : إذا جاء وعد أولى تينك المرّتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ .
وقوله : بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً يعني تعالى ذكره بقوله : بَعَثْنا عَلَيْكُمْ وجّهنا إليكم ، وأرسلنا عليكم عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ يقول : ذوي بطش في الحروب شديد . وقوله : فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعدا مَفْعُولاً يقول : فتردّدوا بين الدور والمساكن ، وذهبوا وجاءوا . يقال فيه : جاس القوم بين الديار وجاسوا بمعنى واحد ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، رُوي الخبر عن ابن عباس :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ قال : مشوا .
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان :
وَمِنّا الّذِي لاقى بسَيْفِ مُحَمّدٍ *** فَجاسَ بِهِ الأعْدَاءَ عُرْضَ العَساكِرِ
وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار ، فقتلوهم ذاهبين وجائين ، فيصحّ التأويلان جميعا . ويعني بقوله : وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولاً ذلك لا محالة ، لأنه لا يخلف الميعاد .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرّة الاَخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً قال : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذلّ ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يُقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل ، وقُتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فجاسُوا خِلالَ الدّيارِ ، وكانَ وَعْدا مَفْعُولاً قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون ، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم على دخن فيهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما المرّة الأولى فسلّط الله عليهم جالوت ، حتى بعث طالوت ومعه داود ، فقتله داود .
وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يقول في قوله : بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال : بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى فسألت سعيدا عنها ، فزعم أنها الموصل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : ثني يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ ، حتى إذا بلغ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى وفاضت عيناه ، وطبق المصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي ربّ أرنِي هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه ، فأُري في المنام مسكينا ببابل ، يقال له بختنصر ، فانطلق بمال وأعبد له ، وكان رجلاً موسرا ، فقيل له أين تريد ؟ قال : أريد التجارة ، حتى نزل دارا ببابل ، فاستكراها ليس فيها أحد غيره ، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لم يبق أحد ، فقال : هل بقي مسكين غيركم ؟ قالوا : نعم ، مسكين بفجّ آل فلان مريض يقال له بختنصر ، فقال لغلمته : انطلقوا ، حتى أتاه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : بختنصر ، فقال لغلمته : احتملوه ، فنقله إليه ومرّضه حتى برأ ، فكساه وأعطاه نفقة ، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل ، فبكى بختنصر ، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أنك فعلت بي ما فعلت ، ولا أجد شيئا أجزيك ، قال : بلى شيئا يسيرا ، إن ملكت أطعتني فجعل الاَخر يتبعه ويقول : تستهزىء بي ؟ ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلاّ أنه يرى أنه يستهزىء به ، فبكى الإسرائيلي وقال : ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك ، إلاّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه فقال يوما صيحون ، وهو ملك فارس ببابل : لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا : وما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلاً وأعطاه مئة ألف ، وخرج بختنصر في مطبخه ، لم يخرج إلاّ ليأكل في مطبخه فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلاً جلدا ، فكسر ذلك في ذرعه ، فلم يسأل ، قال : فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ، قالوا : لا نُحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتم ، قالوا : إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى ، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرُفع ذلك إليه ، فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلاً جلدا ، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلاّ جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا ، وقالوا لي كذا وكذا ، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم ، قال الطليعة لبختنصر : إنك فضحتني لك مئة ألف وتنزع عما قلت ، قال : لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغا ساغوا ، وإلاّ انثنوا ما قدروا عليه ، قالوا : ما ضرّك لو فعلت ؟ قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا . ومات صيحون الملك قالوا : استخلفوا رجلاً ، قالوا : على رسلكم حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا عليكم شيئا ، أمهلوا فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه ، فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا ، فملّكوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ، فخرّب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق ، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة ، فسألهم ما هذا الدم ؟ قالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن .
وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرّة الأولى قتال . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خلالَ الدّيارِ قال : من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر ، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال ، ونُصرت عليهم بنو إسرائيل ، فهذا وعد الأولى .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِبادا لَنا أُولي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال : ذلك أي من جاءهم من فارس ، ثم ذكر نحوه .
الضمير في قوله { أولاهما } عائد على قوله { مرتين } [ الإسراء : 4 ] وعبر عن الشر ب «الوعد » لأنه قد صرح بذكر المعاقبة ، وإذا لم يجيء «الوعد » مطلقاً فجائز أن يقع في الشر ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن «عبيداً » ، واختلف الناس في العبيد المبعوثين ، وفي صورة الحال اختلافاً شديداً متباعداً عيونه : أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل{[7473]} ، وكذا قال ابن إسحاق وابن جبير ، وقال ابن عباس : غزاهم جالوت من أهل الجزيرة وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل : غزاهم آخراً ملك اسمه خردوس ، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد لخردوس اسمه بيورزاذان ، وكف عن بني إسرائيل وسكن بدعائه دم يحيى بن زكرياء ، وقيل غزاهم أولاً صنحابين ملك رومة ، وقيل بختنصر ، وروي أنه دخل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك الملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجدوا الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك ، وقالت فرقة : إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن زكرياء ، وصورة قتله : أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته فنهاه يحيى عنها فعز ذلك على امرأته ، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر وقالت لها : إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمنين ، فإذا قال لك تمني علي ما أردت ، فقولي رأس يحيى بن زكرياء : ففعلت الجارية ذلك فردها الملك مرتين وأجابها في الثالثة ، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم وهو يقول لا تحل لك ، وجرى دم يحيى فلم ينقطع فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث ، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم بحسب الخلاف الذي فيه ، قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفاً ، هذا مقتضى هذا الخبر ، وفي بعض رواياته زيادة ونقص ، فروت فرقة : أن أشعياء النبي عليه السلام وعظهم في بعض الأمر وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل قصة الطبري ، وذكر أشعياء في آخره محمداً صلى الله عليه وسلم وبشر به فابتدره بنو إسرائيل ، ففر منهم فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه ، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه فأخذوا منشاراً فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه ، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، وذكر الزهراوي عن قتادة قصصاً ، أن زكرياء هو صاحب الشجرة وأنهم قالوا لما حملت مريم : َضَّيع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه ، وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول ، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخراً هو سابور ذو الأكتاف{[7474]} ، وقال أيضاً ابن عباس سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس سندابادان وشهريازان ، وآخر ، وقال مجاهد : إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس «فجاس خلال الديار » وتغلب ولكن لم يكن قتال ، ولا قتل في بني إسرائيل ، ثم انصرفت عنهم الجيوش وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر ، وقوله عز وجل { فجاسوا خلال الديار } وهي المنازل والمساكن .
وقوله تعالى : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } يرد على قول مجاهد إنه لم يكن في المرة الأول غلبة ولا قتال وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال ، وقد قال مؤرج : «جاسوا خلال الأزقة » ، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصاً طويلاً منه ما يخص الآيات وأكثره لا يخص وهذه المعاني ليست بالثابت فلذلك اختصرتها ، وقوله { بعثنا } يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولاً يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاه وقرأ الناس «فجاسوا » بالجيم ، وقرأ أبو السمال «فحاسوا » بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسراً ومنه الحواس ، وقيل لأبي السمال إنما القراءة «جاسوا » بالجيم فقال «جاسوا وحاسوا » واحد .
قال القاضي أبو محمد : فهذا يدل على تخير لا على رواية ، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه{[7475]} ، وقرأ الجمهور : «خلال » ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «خللَ » ونصبه في الوجهين على الظرف .
الوعد مصدر بمعنى المفعول ، أي موعود أولى المرتين ، أي الزمان المقدر لحصول المرة الأولى من الإفساد والعلو ، كقوله : { فإذا جاء وعد ربي جعله دكاً } [ الكهف : 98 ] .
ومثل ذلك قوله : { وكان وعداً مفعولا } أي معمولاً ومنفذاً .
وإضافة { وعد } إلى { أولاهما } بيانية ، أي الموعود الذي هو أولى المرتين من الإفساد والعلو .
والبعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتهيئة أسبابه حتى كأن ذلك أمر بالمسير إليهم كما مر في قوله : { ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } في سورة [ الأعراف : 167 ] ، وهو بعث تكوين وتسخير لا بعث بوحي وأمر .
وتعدية { بعثنا } بحرف الاستعلاء لتضمينه معنى التسليط كقوله : { ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } [ الأعراف : 167 ] .
والعِباد : المملوكون ، وهؤلاء عباد مخلوقية ، وأكثر ما يقال : عباد الله . ويقال : عَبيد ، بدون إضافة ، نحو { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ، فإذا قصد المملوكون بالرق قيل : عَبيد ، لا غير . والمقصود بعباد الله هنا الأشوريون أهل بابل وهم جنود بختنصر .
والبأس : الشوكة والشدة في الحرب . ووصفه بالشديد لقوته في نوعه كما في آية سورة سليمان [ النمل : 33 ] : { قالوا نحن أولو قوة وأولوا بأس شديد . } وجملة فجاسوا } عطف على { بعثنا } فهو من المقضي في الكتاب . والجوس : التخلل في البلاد وطرقها ذهاباً وإياباً لتتبع ما فيها . وأريد به هنا تتبّع المقاتلة فهو جوس مضرة وإساءة بقرينة السياق .
و ( خلال ) اسم جاء على وزن الجموع ولا مفرد له ، وهو وسط الشيء الذي يتخلل منه . قال تعالى : { فترى الودق يخرج من خلاله } [ الروم : 48 ] .
والتعريف في الديار } تعريف العهد ، أي دياركم ، وذلك أصل جعل ( ال ) عوضاً عن المضاف إليه . وهي ديار بلد أورشليم فقد دخلها جيش بختنصر وقتل الرجال وسبى ، وهدم الديار ، وأحرق المدينة وهيكل سليمان بالنار . ولفظ ( الديار ) يشمل هيكل سليمان لأنه بيت عبادتهم ، وأسر كل بني إسرائيل وبذلك خلت بلاد اليهود منهم . ويدل لذلك قوله في الآية الآتية : { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } .