السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا} (5)

{ فإذا جاء وعد أولاهما } أي : أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه { بعثنا عليكم عباداً لنا } أي : لا يدان لكم بهم كما قال تعالى : { أولي بأس شديد } أي : أصحاب قوّة في الحرب . واختلف فيهم فقال في «الكشاف » : سنحارب وجنوده ، وقيل بختنصر . وقال ابن عباس : جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً . وقال البيضاوي : عباداً لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده ، وقيل : جالوت الحزري وهو بحاء فزاي : مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها ، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس . وذكر الرازي في ذلك قولين : الأوّل : أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه ، فبقوا هناك في الذل . الثاني : أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال : أفسدوا المرّة الأولى ، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر . وعن ابن مسعود قال : كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط . وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى . قاله الرازي . واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواماً فقتلوهم وأفنوهم .

ثم قال الله تعالى : { فجاسوا } أي : تردّدوا لطلبكم { خلال الديار } أي : وسطها للقتل والغارة . قال البيضاوي : فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد ، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى . وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه » : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه . قلت : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عز وجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون } [ الأنعام ، 129 ] . { وكان } أي : ذلك البعث ووعد العقاب به { وعداً مفعولاً } أي : قضاء كائناً لازماً لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل .