بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا} (5)

وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة أنه قال : أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت ، حتى بعث الله طالوت ، ومعه داود ، فقتله داود . ثم رُدَّت الكرة لبني إسرائيل . ثم جاء وعد الآخرة من المرتين { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } [ الإسراء : 7 ] أي : يقبحوا وجوهكم ، وليدمروا تدميراً ، وهو بُخْتَنَصَّر . وإن عدتم عدنا . فعادوا ، فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : وَعْدُ أُولاهُمَا جاءتهم فارس معهم بختنصر ، ثم رجعت فارس يعني : أهل فارس ولم يكن قتال ، ونصرت بنو إسرائيل عليهم . فذلك وعد الأولى . فإذا جاء وَعْدُ الآخرة ، جاءهم بختنصر ، ودمر عليهم .

وروى أسباط عن السدي ، أن وعد الأولى كان ملك النبط ، فجاسوا خلال الديار . ثم إن بني إسرائيل تجهزوا ، وغزوا النبط ، فأصابوا منهم ، واستنقذوا ما في أيديهم ، فردت الكرة عليهم . وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيماً في ذلك العسكر ، وخرج ليسأل شيئاً . فلما رأى كبر جمع الجيوش ، وجاء بهم ، وخوفهم ، وخرب البلدة .

قال القتبي : إن بختنصر غزاهم ، فرغبوا إلى الله ، وتابوا ، فردَّ الله عنهم بعد أن فتحوا المدينة ، وجالوا في أسواقها ، ثم أحدثوا ، فبعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي الله ، فضربوه ، وقيدوه ، وحبسوه ، فبعث الله تعالى إليهم عند ذلك بختنصر ، ففعل ما فعل .

وقال الكلبي : لما عصوا الله ، وهو أول الفسادين ، سلط الله عليهم بختنصر ، خرج من بابل فأتاهم بالشام ، وظهر على بيت المقدس ، فقتل منهم أربعين ألفاً ممن كان يقرأ التوراة ، وأدخل بقيتهم أرضه . فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلاً من أهل همدان يقال له : كورش غزا أهل بابل ، فظهر عليهم ، وسكن الدار ، وتزوج امرأة من بني إسرائيل ، وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم ، ففعل ، فردهم إلى أرض بيت المقدس ، فمكثوا فيها ، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه . ثم عادوا فعصوا المرة الثانية ، فسلط الله عليهم ملكاً من ملوك الروم يقال له : إسبسيانوس ، فحاصرهم سنين ثم مات . فبعث الله عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس ، فحاصرهم سنين . ثم فتحها بعد ذلك ، فقتل منهم مائة ألف ، وثمانين ألفاً حتى قتل يحيى بن زكريا ، وحبس منهم مثل ذلك ، وخرب بيت المقدس فلم يزل خراباً حتى بناه المؤمنون في زمن عمر رضي الله عنه . فذلك قوله : { فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما } يقول : أول الفسادين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } أي : سلطنا عليكم { عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني : ذوي قتال شديد { فَجَاسُواْ خلال الديار } يقول : قتلوكم وسط الأزقة . وقال القتبي { فَجَاسُواْ } أي : عاثوا ، وأفسدوا . ويكون جاسوا بمعنى دخلوا بالفساد { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً } يعني : كائناً لئن فعلتم ، لأفعلن بكم .