الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا} (5)

{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بخت نصر وأصحابه .

ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال : أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأُري في المنام مسكيناً ببابل يقال له : بخت نصر فانطلق بمال [ وبأعبد له ] وكان رجلاً موسراً [ وقيل له أين ] تريد ؟

قال : أريد النجارة حتّى نزل داراً ببابل [ فأستكبر ] إلهاً ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال : هل بقيَّ غيركم مسكين ؟ قالوا : نعم مسكين [ يفتح الفلان مريض ] يقال له : بخت نصر ، فقال لغلمانه : انطلقوا حتى أتاه ، فقال : ما أسمك ؟ قال : بخت نصر ، فقال لغلمانه إحتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الاسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر ، فقال الاسرائيلي : ما يبكيك ؟

قال : أبكي إنك فعلت بي مافعلت ولا أجد شيئاً أجزيك ، قال : بلى شيئاً يسراً إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال : تستهزيء بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلاّ أنه يرى أنه يستهزيء به قبلي الاسرائيلي ، فقال : لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلاّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه .

قال صيحورا ملك فارس ببابل : لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا : وما ضرك لو فعلت ؟ قال فمن ترون قال : فلان فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلاّ ليأكل في مطبخه .

فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرساً ورجالاً [ جاء وقد كسر ] ذلك في ذرعه فلم يسأل قال : فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها مادون بيت مالها شيء .

قالو : لا نحسن القتال ، قال : ولو أنكم غزوتهم قالوا : لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان ، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلاناً لما رأى أكثر أرض الله فرساً ورجالا جلداً كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، قال : لم أدع مجلساً شيئاً بالشام [ الاجال واصله ] فقلت لهم : كذا وكذا ، فقالوا لي : كذا وكذا .

قال سعيد بن جبير : وقال صاحب الطليعة لبخت نصر : إن صحبتني أعطي لك مائة الف وتنزع عما قلت . قال : لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة ، فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغاً وإلا انثنوا ما قدورا عليه ، قال : وما ضرّك لو فعلت ، قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان . قال : هل الرجل الذي [ أخبرني بما أخبرني ] فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } [ فسبوا ] ما شاء الله ولم [ يخربّوا ] ولم يقتلوا ، ومات [ صيحون فقالوا ] : استخلفوا رجلاً ، قالوا : على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئاً ، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر [ بالسبي ] وما معه فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحداً أحق بالملك من هذا فملكوه .

وقال السدي بإسناده : إن رجلاً من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل [ خلي إليَّ ] غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق ، فأقبل يسأل عنه حتّى [ نزل على أبيه ] وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر بهذا طعاماً وشراباً وإشتري بدرهم لحماً وبدرهم خبزاً وبدرهم خمراً ، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك ، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك ، ثمّ قال : إني أحب أن [ تكتب لي أمانا ] إن كانت ملكت يوماً من الدهر ، فقال : أتسخر مني ؟ قال : إني لا أسخر بك [ ولكن ما عليك لن تتخذ ] بها عندي مريدا فكلمته أية ، فقالت : يا ملك إن كان مالاً لم ينقصك شيئاً فيكتب به أماناً ، فقال : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي أية تعرفني بها ، قال : ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه .

ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ( عليهما السلام ) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمراً دونه [ فإنه هوى ] أن يتزوج ابنت إمرأة له ، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها ، قال : لست أرضاها لك ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على [ يحيى ] حين نهاه أن يتزوج ابنتها [ فذهبت إلى جارية ] حين حس الملك على شرابه ، فألبستها ثياباً رقاقاً خضراء وطيبتها والبستها من الحلي والبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا ( عليهما السلام ) في طشت ، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها ، فقالت : لا [ أقبل ] حتّى تعطيني ما أسألك ، قال : ما تسألين ؟ قالت : أسألك أن تبعث إليَّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت ، فقال الملك : سليني غير هذا .

قالت : ما أُريد إلاّ هذا ، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه [ والرأس يتكلم ] في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول [ لا يحل لك ] ، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشاً أو يؤمر عليهم رجلاً .

فأتاه بخت نصر فكلمه وقال : إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها [ فأبعثني ] فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان [ تحصنوا ] منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتّد عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع ، فخرجت إليه عجوزاً من عجائز بني إسرائيل فقالت : أين أمير الجند ؟ فأتى بها إليه فقالت له : إنه قد بلغني أنك تريد [ . . . . . ] ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة ، قال : نعم ، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني ، فقالت : أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك [ فتقتل ] من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف ؟ قال لها : نعم ، قالت : إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعاً ثمّ إرفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط ، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له : كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وإنطلقت به إلى دم يحيى وهو على [ تراب كثيرة ] فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفاً فلما سكن الدم ، قالت له : كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه ، وقال : من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى .

فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت ، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا : أجل إن لنا رباً نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم ، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً ولم ينكأه شيئاً ووجدوا معهم رجلاً فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا : ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكاً من الملائكة فلطمهُ لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه .

ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال ( عليه السلام ) ، وهو ماروى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهباً يقول : إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنماً رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار ، ثمّ رأى حمراً من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب ، ورأى شجرة أصلها في الارض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلاً بيده فأس ، وسمع منادياً ينادي : اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها ، وأنزل [ . . . . . . ] عبرها له دانيال ( عليه السلام ) .

قال : أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك ، وأما الصدر الذي [ رأيت ] من فضة فإبنك يملك من [ بعدك ] ، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد ( إبنك ) وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديداً مثل الحديد ، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار ، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ مابين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب .

وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر [ بقطعها فيذهب ] ملكك فيردك الله طائراً يكون شراً ملك الطير ثمّ يردك ثوراً ملك الدواب ثمّ يردك الله أسداً ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين .

في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وهو يقدر على الأرض ومن عليها ، وما رأيت أصلها [ قائماً ] فإن ملكك قائم ، فمسخ بخت نصر نسراً من الطير وثوراً من الدواب واسداً من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله .

[ وسئيل وهب بن منبه ] أكان مؤمناً ؟ قال : وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : مات مؤمناً ، ومنهم قال : أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء ، وغضب الله عليه غضباً ، فلم يقبل منه حينئذ توبته .

وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ [ فرّد الله ] إليه ملكه : كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عاراً فجعل لهم بخت نصر طعاماً فأكلوا وشربوا وقال للبواب : أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين وإن قال : أنا بخت نصر ، فقل : كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلاً وكان ليلاً ، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال : أنا بخت نصر قال : كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله .

وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال : في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي ، وذلك أنه قال بإسناده : لما أراد الله [ . . . . . . . ] ليبعث فقال لمن كان في [ . . . . . . ] وكان يعذبه من بني إسرائيل : أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت ، فقالوا : هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله ، كانوا من [ ذراري الأنبياء ] وظلموا [ وتعذروا ] وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم [ ويحرمهم ] ، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم .

قال : فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكاً فإني قد [ فرغت ] من الأرض ومن فيها ، قالوا : ما يقدر عليه أحد من الخلائق ، قال : لتفعلن [ أو لأقتلنكم عن آخركم ] فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه ، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهوانه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ ، فما كان [ يقر ولا يسكن ] حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله : إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني ، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه ، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه .

ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم ، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة [ وليس معهم عهد ] من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزير ( عليه السلام ) وقد مضت القصة ، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء ، إلاّ أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند [ قتلهم ] يحيى بن زكريا غلط [ أهل السير ] والأخبار والعلم بأُمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين ، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا ( عليه السلام ) وهي الوقعة الأولى التي قال الله { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعني بخت نصر وجنوده ، قالوا ومن عهد أروميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين [ عمارته في عهد كوسك ] سبعين سنة ، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة ، ثمّ من بعد مملكة الاسكندر إلى موت يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) بثلثمائة وثلاث وستون ، ويروى بثلاثمائة سنة وثلاث سنين .

وإنما الصحيح من ذلك ماذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال : كثر عن بني إسرائيل بعدما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها ، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير ( عليه السلام ) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود ، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته ، في قول عبد الله ابن الزبير وابنت أخته في قول السدي وابنت أخيه في قول ابن عبّاس .

وهو الأصح إن شاء الله ، لِما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال : بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في إثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس ، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ ، قال : وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها ، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى .

رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا ، وبعض الناس يقول : قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له : خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى [ نبور زاذان ] صاحب القتل فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلاّ أني لا أجد أحداً أقتله ، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان ، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم [ فوجد فيها دماً يغلي ]فسألهم عنه ، قالوا : هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلاّ هذا القربان ، قال : ما صدقتموني الخبر قالوا له : لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم [ نبور زاذان ] على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأساً من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهمعلى الدم فلم يبرد ولم يهدأ فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : ويلكم يابني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم [ فقد طال ] ما ملكتم في الأرض ، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما [ رأوا الجهد ] وشدة القتل صدقوهُ القول فقالوا له : إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان : ماكان اسمه ؟ قال : يحيى بن زكريا ، قال : وهل صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرَّ ساجداً وقال لمن حوله : اغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل .

قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد ، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل [ وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره ، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض ، ولو كان له ولد لم يصلح ، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن ، وهو على كل شيء قدير فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول ، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه ] فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور صدوق .

وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل : يابني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له : إفعل ما أُمرت به فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم ، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم [ وقد انتقمت منهم لما فعلوا ] ثمّ إنصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده ، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } الآيات .

وكانت الوقعة الأولى : بخت نصر وجنوده ثمّ ردَّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم [ . . . . . . . ] همام بعد ذلك [ . . . . . . . ] . فانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم واليونان ، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس [ بزواجها ] على غير وجه الملك وكانوا في أُهبة ومِنْعَة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي ، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة ، فليسوا في أمة من الأمم إلاّ وعليهم [ الصغار ] والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خراباً إلى أيام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) عمّره المسلمين بأمره .

وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ } الآيات ، فقال : أما الذين { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله { تَتْبِيراً } فكان جالوت الجزري شعبة من [ . . . . . . . ] .