قوله تعالى : { قال بصرت بما لم يبصروا به } رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا . قرأ حمزة والكسائي : ( ما لم يبصروا ) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون : بالياء على الخبر . { فقبضت قبضة من أثر الرسول } أي : من تراب أثر فرس جبريل { فنبذتها } ، أي : ألقيتها في فم العجل . وقال بعضهم : إنما خار لهذا لأن التراب كان مؤخوذاً من تحت حافر فرس جبريل . فإن قيل : كيف عرفه ورأى جبريل من بين سائر الناس ؟ قيل : لأن أمه لما ولدته في السنة التي كان يقتل فيها البنون وضعته في الكهف حذراً عليه ، فبعث الله جبريل ليربيه لما قضى على يديه من الفتنة { وكذلك سولت } أي : زينت . { لي نفسي* }
( قال : بصرت بما لم يبصروا به ، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها . وكذلك سولت لي نفسي ) . .
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا . فما هو الذي بصر به ? ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها ? وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه ? وما أثر هذه القبضة فيه ?
والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل - عليه السلام - وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض ؛ فقبض قبضة من تحت قدمه ، أو من تحت حافر فرسه ، فألقاها على عجل الذهب ، فكان له هذا الخوار . أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار .
والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث ، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية . . ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث . وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم ، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار . ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه ، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول !
{ قال بصرت بما لم يبصروا به } أي : رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون ، { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } أي : من أثر فرسه . وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، أخبرنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي بن عمارة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إن جبريل ، عليه السلام ، لما نزل فصعد بموسى إلى السماء ، بصر به السامري من بين الناس ، فقبض قبضة من أثر الفرس قال : وحمل جبريل موسى خلفه ، حتى إذا دنا من باب السماء ، صعد وكتب الله الألواح{[19481]} وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح . فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال : نزل موسى ، فأخذ العجل فأحرقه . غريب . وقال مجاهد : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } قال : من تحت حافر فرس{[19482]} جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع .
قال مجاهد : نبذ السامري ، أي : ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه ، فهو خواره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا علي بن المديني ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا عمارة ، حدثنا عكرمة ؛ أن السامري رأى الرسول ، فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء ، فقلت له : " كن فكان " فقبض قبضة من أثر الرسول ، فيبست أصابعه على القبضة ، فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون ، فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا الحلي ، فاجمعوه . فجمعوه ، فأوقدوا عليه ، فذاب ، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت : " كن " كان . فقذف القبضة وقال : " كن " ، فكان عجلا له خوار ، فقال : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } .
ولهذا قال : { فَنَبَذْتُهَا } أي : ألقيتها مع من ألقى ، { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي : حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك .
وقوله : " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يقول : قال السامريّ : علمت ما لم يعلموه ، وهو فعلت من البصيرة : أي صرت بما عملت بصيرا عالما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما قتل فرعون الولدان قالت أمّ السامريّ : لو نحيته عني حتى لا أراه ، ولا أدري قتله ، فجعلته في غار ، فأتى جبرئيل ، فجعل كفّ نفسه في فيه ، فجعل يُرضعه العسل واللبن ، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه ، فمن ثم معرفته إياه حين قال : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " .
وقال آخرون : هي بمعنى : أبصرت ما لم يبصروه . وقالوا : يقال : بصرت بالشيء وأبصرته ، كما يقال : أسرعت وسرعت ما شئت . ذكر من قال : هو بمعنى أبصرت :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة قال " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " يعني فرس جبرئيل عليه السلام .
وقوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " يقول : قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار ، وتكسرت ، ورأى السامريّ أثر فرس جبرئيل عليه السلام ، فأخذ ترابا من أثر حافره ، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها ، وقال : كن عجلاً جسدا له خوار ، فكان للبلاء والفتنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قبض قبضة منه من أثر جبرئيل ، فألقى القبضة على حليهم فصار عجلاً جسدا له خوار ، فقال : هذا إلهكم وإله موسى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَر الرّسُولِ فَنَبَذْتُها " قال : من تحت حافر فرس جبرئيل ، نبذه السامريّ على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلاً جسدا له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره ، والعجل : ولد البقرة .
واختلف القرّاء في قراءة هذين الحرفين ، فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة " بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، بمعنى : قال السامريّ : بصرت بما لم يبصر به بنو إسرائيل . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » بالتاء على وجه المخاطبة لموسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، بمعنى : قال السامريّ لموسى : بصرت بما لم تبصر به أنت وأصحابك .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء مع صحة معنى كل واحدة منهما ، وذلك أنه جائز أن يكون السامريّ رأى جبرئيل ، فكان عنده ما كان بأن حدثته نفسه بذلك أو بغير ذلك من الأسباب ، أن تراب حافر فرسه الذي كان عليه يصلح لما حدث عنه حين نبذه في جوف العجل ، ولم يكن علم ذلك عند موسى ، ولا عند أصحابه من بني إسرائيل ، فلذلك قال لموسى : «بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بهِ » أي علمت بما لم تعلموا به . وأما إذا قرىء " بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ " بالياء ، فلا مؤنة فيه ، لأنه معلوم أن بني إسرائيل لم يعلموا ما الذي يصلح له ذلك التراب .
وأما قوله : " فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ " فإن قرّاء الأمصار على قراءته بالضاد ، بمعنى : فأخذت بكفي ترابا من تراب أثر فرس الرسول . وروي عن الحسن البصري وقتادة ما :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد بن عوف ، عن الحسن أنه قرأها : «فَقَبَصْتُ قَبْصَةً » بالصاد .
وحدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عباد ، عن قَتادة مثل ذكر بالصاد . بمعنى : أخذت بأصابعي من تراب أثر فرس الرسول ، والقبضة عند العرب : الأخذ بالكفّ كلها ، والقبصة : الأخذ بأطراف الأصابع .
وقوله : " فَنَبَذْتُها " يقول : فألقيتها " وكَذَلَكَ سَوّلَتْ لي نَفْسِي " يقول : وكما فعلت من إلقائي القبضة التي قبضت من أثر الفرس على الحلية التي أوقد عليها حتى انسبكت فصارت عجلاً جسدا له خوار . " سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " يقول : زينت لي نفسي أنه يكون ذلك كذلك ، كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " وكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي " قال : كذلك حدثتني نفسي .
وقرأت فرقة «بصُرت » بضم الصاد على معنى صارت بصيرتي بصورة ما فهو كطرفت وشرفت ، وقرأت فرقة «بصِرت » بكسر الصاد ، فيحتمل أن يراد من البصيرة ويحتمل أن يراد من البصر وذلك أن في أمر السامري ما زاده على الناس بالبصر وهو وجه جبريل عليه السلام وفرسه وبالبصيرة وهو ما علمه من أن القبضة إذا نبذها مع الحلي جاءه من ذلك ما يريد ، وقرأ الجمهور «يبصروا » بالياء يريد بني إسرائيل ، وقرأ حمزة والكسائي «تبصروا » بالتاء من فوق يريد موسى مع بني إسرائيل ، وقرأ الجمهور «فقبضت قبضة » بالضاد منقوطة بمعنى أخذت بكفي مع الأصابع ، وقرأ ابن مسعود وابن الزبير وأبي بن كعب وغيرهم ، «فقبصت قبصة » بالصاد غير منقوطة بمعنى أخذت بأصابعي فقط ، وقرأ الحسن بخلاف عنه «قُبضة » بضم القاف{[8152]} . و { الرسول } جبريل عليه السلام ، و «الأثر » هو تراب تحت حافر فرسه ، وسبب معرفة السامري بجبريل وميزه له فيما روي أن السامري ولدته أمه عام الذبح فطرحته في مغارة فكان جبريل عليه السلام يغذوه ويحميه حتى كبر وشب فميزه بذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف . وقوله { فنبذتها } أي على الحلي فكان منها ما تراه وهذا محذوف من اللفظ تقتضيه الحال والمخاطبة . ثم قال { وكذلك سولت لي نفسي } أي وكما حدث ووقع قويت لي نفسي وجعلته لي سولاً وإرباً حتى فعلته ، وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ونحو هذا ، وعلمه مع ذلك وجعل له أن يقول مدة حياته { لا مساس } أي لا مماسة ولا إذاية .