172- بيَّن اللَّه هنا هداية بني آدم بنصب الأدلة في الكائنات ، بعد أن بيَّنها عن طريق الرسل والكتب ، فقال : واذكر - أيها النبي - للناس حين أخرج ربك من أصلاب بني أدم ونسلهم وما يتوالدون قرنا بعد قرن ، ثم نصب لهم دلائل ربوبيته في الموجودات ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها من معرفتنا ، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية ، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بل أنت ربنا شهدنا بذلك على أنفسنا ، لأن تمكينهم من العلم بالأدلة وتمكنهم منه في منزلة الإقرار والاعتراف . وإنما فعلنا هذا لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين لا نعرفه .
قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن زيد بن الخطاب أخبره ، عن مسلم بن يسار الجهني ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية . قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذريةً ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريةً فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة ، استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله به النار ) ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن . ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً .
قال مقاتل وغيره من أهل التفسير : إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، فقال : للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي ، وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعاً في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال ، وأرحام النساء . قال الله تعالى فيمن نقض العهد الأول : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } [ الأعراف : 102 ] . وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السعادة أقروا طوعاً ، وقالوا : بلى ، وأهل الشقاوة قالوه تقيةً وكرهاً ، وذلك معنى قوله : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً } [ آل عمران : 83 ] . واختلفوا في موضع الميثاق ، قال ابن عباس رضي الله عنه : ببطن نعمان ، واد إلى جنب عرفة ، وروي عنه أيضاً : أنه بدهناء من أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام عليه . وقال الكلبي : بين مكة والطائف . وقال السدي : أخرج الله آدم عليه السلام من الجنة ، فلم يهبطه من السماء ، ثم مسح ظهره ، فأخرج ذريته . وروي : أن الله أخرجهم جميعاً ، وصورهم ، وجعل لهم عقولاً يعملون بها وألسناً ينطقون بها ، ثم كلمهم قبلاً يعني عياناً ، وقال ألست بربكم ؟ وقال الزجاج : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما تعقل به ، كما قال تعالى : { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل :18 ] . وروي أن الله تعالى قال لهم جميعاً : اعلموا أنه لا إله غيري ، وأنا ربكم ، لا رب لكم غيري ، فلا تشركوا بي شيئاً ، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ، ولم يؤمن بي ، وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ، ومنزل عليكم كتباً ، فتكلموا جميعاً ، وقالوا : شهدنا أنك ربنا ، وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، فأخذ بذلك مواثيقهم ، ثم كتب آجالهم ، وأرزاقهم ومصائبهم ، فنطر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لولا سويت بينهم ؟ قال : إني أحب أن أشكر ، فلما قررهم بتوحيده ، وأشهد بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه ، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه ، فذلك قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } أي : من ظهور بني آدم ذريتهم ، قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر : ( ذرياتهم ) بالجمع وكسر التاء ، وقرأ الآخرون ( ذريتهم ) على التوحيد ، ونصب التاء . فإن قيل : ما معنى قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } وإنما أخرجهم من ظهر آدم ؟ قيل : إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد من الآباء في الترتيب ، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه . وأخرجوا من ظهره .
قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ، أي : أشهد بعضهم على بعض .
قوله تعالى : { شهدنا أن تقولوا } ، قرأ أبو عمرو : ( أن يقولوا ) أو يقولوا بالياء فيهما ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهما . واختلفوا في قوله : ( شهدنا ) قال السدي : هو خبر من الله عن نفسه ، وملائكته ، أنهم شهدوا على إقرار بني آدم . وقال بعضهم : هو خبر عن قول بني آدم : أشهد الله بعضهم على بعض ، فقالوا : بلى شهدنا ، وقال الكلبي : ذلك من قول الملائكة ، وفيه حذف تقديره : لما قالت الذرية : بلى ، قال الله للملائكة : اشهدوا ، قالوا : شهدنا ، قوله : ( أن يقولوا ) يعني : وأشهدهم على أنفسهم أن يقولوا ، أي : لئلا يقولوا أو كراهية أن يقولوا ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم : ألست بربكم لئلا تقولوا ؟
قوله تعالى : { يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } ، أي : عن هذا الميثاق والإقرار ، فإن قيل : كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق ؟ قيل : قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته ، وصدق رسله فيما أخبروا ، فمن أنكره كان معانداً . ناقضاً للعهد . ولزمته الحجة ، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج ، بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل . وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ . . وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . .
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد - على طريقة القرآن الغالبة - وإنه لمشهد فريد . . مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق ، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود ، تؤخذ في قبضة الخالق المربي ، فيسألها : ( ألست بربكم ؟ ) . . فتعترف له - سبحانه - بالربوبية ؛ وتقر له - سبحانه - بالعبودية ؛ وتشهد له - سبحانه - بالوحدانية ؛ وهي منثورة كالذر ؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم !
إنه مشهد كوني رائع باهر ، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة ! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته ! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى ، وهي تجمع وتقبض . وهي تخاطب خطاب العقلاء - بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع - وهي تستجيب استجابة العقلاء ، فتعترف وتقر وتشهد ؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب !
وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد . وهو يتمثل الذر السابح . وفي كل خلية حياة . وفي كل خلية استعداد كامن . وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول ، ويقطع على نفسه العهد والميثاق ، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم !
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد ، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود . . عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان ، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام ! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة . فإذا " العلم " يقرر أن الناسلات ، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل " الإنسان " وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب . . أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها ، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال : " مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ( ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) " . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ؟ وكيف خاطبهم : ( ألست بربكم )وكيف أجابوا : ( بلى شهدنا )? . . فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . . ) . . ( ثم استوى على العرش ) . . ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) . . ( والسماوات مطويات بيمينه ) . . ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) . . ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) . . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا : ولهذا قال : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم )ولم يقل : من آدم . . ( من ظهورهم ) . . ولم يقل من ظهره . . ( ذرياتهم )أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . . وقال : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) . . ثم قال : ( وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! ) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) . . أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالى : ( وإنه على ذلك لشهيد ) . . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال : ( أن تقولوا ) . . أي لئلا تقولوا ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا ) . أي التوحيد . . ( غافلين ) ،
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو . كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية : على هذه الملة - فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله [ تعالى ]{[12297]} إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم{[12298]} الشياطين فاجتالتهم ، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " {[12299]}
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى : أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم ، عن الأسود بن سريع من بني سعد ، قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد عليه ، ثم قال : " ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟ " قال رجل : يا رسول الله ، أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : " إن خياركم أبناء المشركين ! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو{[12300]} ينصرانها " . قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] }{[12301]} الآية{[12302]}
وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسماعيل بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن البصري{[12303]} به . وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : حدثنا الأسود ابن سَرِيع ، فذكره ، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك{[12304]}
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم ، عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[ إلى ]{[12305]} أصحاب الشمال ، وفي بعضها{[12306]} الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج ، حدثنا شُعْبة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ " قال : " فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم{[12307]} ألا تشرك بي شيئًا ، فأبيت إلا أن تشرك بي " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة ، به{[12308]}
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن كلثوم بن جابر{[12309]} عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12310]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ، عليه السلام ، بنعمان . يعني{[12311]} عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } إلى قوله : { الْمُبْطِلُونَ }
وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عن محمد بن عبد الرحيم - صاعقة - عن حسين بن محمد المروزي ، به . ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد{[12312]} به . إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا . وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره ، عن جرير بن حازم ، عن كلثوم بن جَبْر ، به . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير{[12313]} {[12314]} هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث ، عن كلثوم بن جبر{[12315]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فوقفه{[12316]} وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع ، عن ربيعة بن كلثوم ، عن جبير ، عن أبيه ، به . {[12317]} وكذا رواه عطاء بن السائب ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعلي بن بَذِيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[12318]} قوله ، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن
عباس{[12319]} فهذا أكثر وأثبت ، والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن أبي جَمْرَة الضبعي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12320]} قال : أخرج الله ذرية آدم [ عليه السلام ]{[12321]} من ظهره كهيئة الذر ، وهو في آذى من الماء .
وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال : مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم ، [ وهو ]{[12322]} ابن ستة أيام . قال : فقال : يا جابر ، إذا أنت وضعت ابني في لحده ، فأبرز وجهه ، وحُلّ عنه عقده ، فإن ابني مُجْلَس ، ومسئول . ففعلت به الذي أمر ، فلما فرغت قلت : يرحمك الله ، عمّ يُسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في{[12323]} صلب آدم . قلت : يا أبا القاسم ، وما هذا الميثاق الذي أقر به في{[12324]} صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[12325]} ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها{[12326]} إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وتكفل لهم بالأرزاق ، ثم أعادهم في صلبه . فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به ، نفعه الميثاق الأول . ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف{[12327]} به ، لم ينفعه الميثاق الأول . ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر ، مات على الميثاق الأول على الفطرة{[12328]}
فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس ، والله أعلم .
حديث آخر : وقال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد ، حدثنا أحمد بن أبي طيبة ، عن سفيان بن سعيد ، عن الأجلح ، عن الضحاك وعن{[12329]} - منصور ، عن مجاهد - عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : " أخذ من ظهره ، كما يؤخذ بالمشط من الرأس ، فقال لهم : { ألست بربكم قالوا بلى } قَالَتِ الْمَلائِكَةُ { شهدنا أن يقولوا }{[12330]} يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين{[12331]}
أحمد بن أبي طيبة هذا هو : أبو محمد الجرجاني قاضي قومس ، كان أحد الزهاد ، أخرج له النسائي في سننه ، وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه . وقال ابن عَدِيّ : حدث بأحاديث أكثرها{[12332]} غرائب .
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قوله ، وكذا رواه جرير ، عن منصور ، به . وهذا أصح{[12333]} والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح - هو ابن عبادة - حدثنا مالك ، وحدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ : أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أخبره ، عن مسلم بن يَسار الجُهَني : أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } الآية ، فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سُئل عنها ، فقال : " إن الله خلق آدم ، عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " . فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا خلق الله العبد للجنة ، استعمله بأعمال{[12334]} أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله{[12335]} به الجنة . وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله{[12336]} به النار " .
وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي - والنسائي عن قتيبة - والترمذي{[12337]} عن إسحاق بن موسى ، عن مَعْن . وابن أبي حاتم ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب . وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر . وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، من رواية أبي مصعب الزبيري ، كلهم عن الإمام مالك بن أنس ، به{[12338]}
قال الترمذي : وهذا حديث حسن ، ومسلم بن يَسَار لم يسمع{[12339]} عُمَر . وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة . زاد أبو حاتم : وبينهما نُعَيْم بن ربيعة .
وهذا الذي قاله أبو حاتم ، رواه أبو داود في سننه ، عن محمد بن مصفى ، عن بَقِيَّةَ ، عن عمر ابن جُعْثُم{[12340]} القرشي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن مسلم بن يَسَار الجهني ، عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[12341]} وقد سئل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فذكره{[12342]}
وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي ، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك ، والله أعلم{[12343]}
قلت : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر " نعيم بن ربيعة " عمدًا ؛ لما جهل حاله ولم يعرفه ، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات ، ويقطع كثيرًا من الموصولات ، والله أعلم .
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[12344]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله [ عز وجل ]{[12345]} آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذرّيتك . فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك ، يقال له : داود . قال : رب ، وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة . قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة . فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون{[12346]} سنة ؟ قال : أوَ لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته " .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، به . وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه{[12347]}
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنه حدثه عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : " ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك . وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى ، وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب ، لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي . وقال آدم : يا رب ، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك " . ثم ذكر قصة داود ، كنحو ما تقدم{[12348]}
حديث آخر : قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري{[12349]} عن أبيه ، عن هشام بن حكيم ، رضي الله عنه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتبدأ الأعمال ، أم قد قُضِي القضاء ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه " ثم قال : " هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار " .
رواه ابن جرير ، وابن مردويه من طرق عنه{[12350]}
حديث آخر : روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف - عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله الخلق ، وقضى القضية ، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله ، فقال : يا أصحاب اليمين . فقالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . قال : يا أصحاب الشمال . قالوا : لبيك وسعديك . قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ثم خلط بينهم ، فقال قائل : يا رب ، لم خلطت بينهم ؟ قال : لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم ردهم في صلب آدم [ عليه السلام ]{[12351]} . رواه ابن مردويه{[12352]}
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب [ رضي الله عنه ]{[12353]} في قول الله تعالى{[12354]} { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية والتي بعدها ، قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، الآية . قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرَضِين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، فلا تشركوا بي شيئًا ، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم{[12355]} عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي . قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك . فأقروا له يومئذ بالطاعة ، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك . فقال : يا رب ، لو سَويت بين عبادك ؟ قال : إني أحببت أن أشكر . ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول تعالى{[12356]} { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ]{[12357]} } [ الأحزاب : 7 ] وهو الذي يقول : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] }{[12358]} الآية [ الروم : 30 ] ، ومن ذلك قال : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [ النجم : 56 ] ومن ذلك قال : { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ]{[12359]} } [ الأعراف : 102 ] .
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم ، من رواية ابن جعفر الرازي ، به . وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد من علماء السلف ، سياقات توافق هذه الأحاديث ، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها ، وبالله المستعان .
فهذه الأحاديث دالة على أن الله ، عز وجل ، استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر{[12360]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12361]} وفي حديث عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ]{[12362]} وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان ، كما تقدم . ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي ، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع . وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك ، قالوا : ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } ولم يقل : " من آدم " ، { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل : " من ظهره " { ذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنًا بعد قرن ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] وقال : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ]
ثم قال : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي : أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا وقالا . والشهادة تارة تكون بالقول ، كما قال [ تعالى ]{[12363]} { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } [ الأنعام : 130 ] الآية ، وتارة تكون حالا كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] أي : حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك ، وكذلك{[12364]} قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 7 ] كما أن السؤال تارة يكون بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كما في قوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [ إبراهيم : 34 ] قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا ، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال{[12365]} لكان كل أحد يذكره ، ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد ؛ ولهذا قال : { أَنْ يَقُولُوا }{[12366]} أي : لئلا يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي : [ عن ]{[12367]} التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا }{[12368]} الآية .