في السورة تسلية وتذكير للمؤمنين ، وتهديد ووعيد للمعاندين ، بدأت بقسمه تعالى بمظاهر قدرته على أن المتعرضين لإيذاء المؤمنين سيطردون من ساحة الرحمة كما طرد من سلك سبيلهم ممن سبقوهم من الأمم . وأخذت السورة تقص فعل الطغاة بالمؤمنين ، وأتبعت ذلك بوعد المؤمنين وتخويف الطاغين . وأن الحق في كل العصور معرض لمناوأة المناوئين ، وأن القرآن الذي هو دعامة الحق ، وإن كذب به القوم فهو في منأى عن الشك ، لأنه في لوح محفوظ عند الله .
1- أقسم بالسماء ذات المنازل التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها{[229]} .
سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون
هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني . . أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، وأرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقا في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنةبهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . .
تبدأ السورة بقسم : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود . . )فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا . والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : ( النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) . .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل :
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله( الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد ) . .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة ؛ وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير ) . .
وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : ( إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد ) . . وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة . .
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمرا . .
( وهو الغفور الودود )الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
( ذو العرش المجيد . فعال لما يريد ) . . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة ، والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح . . ( هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود ? )وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : ( بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط ) . .
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) . . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل :
تبدأ السورة - قبل الإشارة إلى حادث الأخدود - بهذا القسم : بالسماء ذات البروج ، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية ، كما قال : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) . . وكما قال( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) . . وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا رُزَيق بن أبي سلمى ، حدثنا أبو المهزّم ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق{[1]} .
وقال أحمد : حدثنا أبو سعيد - مولى بني{[2]} هاشم - حدثنا حماد بنُ عباد السدوسي ، سمعت أبا المهزم يحدث عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء{[3]} تفرد به أحمد .
يقسم الله بالسماء وبروجها ، وهي : النجوم العظام ، كما تقدم بيان ذلك في قوله : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [ الفرقان : 61 ] .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : البروج : النجوم . وعن مجاهد أيضا : البروج التي فيها الحرس .
وقال يحيى بن رافع : البروج : قصور في السماء . وقال المِنْهَال بن عمرو : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } الخلق الحسن .
واختار ابن جرير أنها : منازل الشمس والقمر ، وهي اثنا عشر برجا ، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا ، ويسير القمر في كل واحد يومين وثلثا ، فذلك ثمانية وعشرون منزلة{[29905]} ويستسرّ ليلتين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.