تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة الشمس ، وفيها تسلية وتذكير للمؤمنين ، وتهديد ووعيد للمعاندين . والموضوع الرئيسي فيها هو حادث أصحاب الأخدود ، وهم فئة من المؤمنين السابقين ، قبل الإسلام ، قل إنهم من النصارى الموحدين ، ابتُلوا بجماعة من الطغاة أرادوهم على ترك عقيدتهم ، والارتداد عن دينهم ، فأبوا وأصرّوا على التمسك بعقيدتهم . فحفر لهم أولئك أخدودا في الأرض ، وأوقدوا فيه نارا عظيمة ألقوهم فيها ، فماتوا حرقا . وذلك على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون ، لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة الوحشية .

وتبدأ السورة بقسَمه تعالى بمظاهر قدرته على أن أولئك الطغاة المتعرضين لإيذاء المؤمنين سيُطردون من ساحة الرحمة ، كما طُرد من سلك سبيلهم ممن سبقوهم من الأمم .

وتقص السورة خبر فعل الطغاة بالمؤمنين ، وتصور ذلك المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، ثم تعقّب ذلك بوعد المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار . وهي تقرر أن الحق في كل العصور معرّض لمناوأة المناوئين ، وأن القرآن الذي هو دعامة الحق في منأى عن الشك ، لأنه في لوح محفوظ عند الله .

البروج : واحدها بُرج بضم الباء ، ومن معانيه : القصر العالي ، والحصن ، وبروجُ السماء الإثنا عشر ، وهي تضم منازلَ القمر الثمانية والعشرين ، وسيأتي تفصيلها .

أقسَم الله تعالى بالسماءِ البديعة وما فيها من نجوم لِينبِّهَنا إلى ما فيها من دقة الصنع ، وبالغ الحكمة ، لِنعلمَ أن الذي خلَقها أجلُّ وأعظم .

والبروج اثنا عشر وهي : الحمَل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسُنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والدَّلو ، والجَدي ، والحوت ، والقوس .

وتحلُّ الشمس كل شهرٍ في واحد من هذه البروج ، وكلٌّ منها يضمُّ منزلَين وثلُثاً من منازل القمر ، وعددها ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل القمر كل يوم في واحد منها ويستتر ليلتين يغيب فيهما .

ومنازل القمر هي : الشرطان ، والبطين ، والثريا ، والدَّبَران ، والهَقْعَة ، والهَنْعة ، والذِراع ، والنثرة ، والطَرْف ، والجَبْهة ، والزّبرة ، والصرفة ، والعَوّاء ، والسِّماك الأعزل ، والغفر ، والزُّبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشَّولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعدُ الذابح ، وسعد بَلَعَ ، وسعدُ سُعود ، وسعدُ الأخبية ، والفرغُ الأول ، والفرغُ الثاني ، وبطنُ الحوت .

ونرى في السماء ستة بروج ، والستة الأخرى تكون في سماء نصفِ الأرض المغيَّبة عنّا .

ونرى في المنازل أربعة عشر منزلا ، والبقية في النصف المغيّب عنّا . والبروج الإثنا عشر ، منها ستة في شمال خط الاستواء ، وستة أخرى في جنوبه .

فأما التي في شماله فهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء .

وهذه الثلاثة تقطعها الشمس في ثلاثة أشهر هي فصل الربيع ، ثم السرطان ، والأسد ، والسنبلة ، وهذه هي فصل الصيف .

والستة التي في جنوب خط الاستواء هي : الميزان ، والعقرب ، والقوس ، وفيها يكون فصل الخريف .

ثم الجدي ، والدلو ، والحوت ، وفيها يكون فصل الشتاء . هكذا قسّم القدماء البروج والمنازل .

ولقد أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من نجوم لا تُعدُّ ولا تحصى ، ومن جملتها هذه البروج ، لأننا نراها ونشاهدُها دائما ، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة .

وقد اهتم العربُ اهتماماً كبيرا بمعرفة هذه النجوم ، ومن قبلِهم اهتمت الأمم التي سبقتهم . وكانوا أحوجَ الناس إلى معرفتها ، ومواقع طلوعها وغروبها ، لأنهم يحتاجون إليها في السفَر برّاً وبحراً ، إذ يهتدون ليلاً بهذه الدراري اللامعة ، فلولاها لضلّت قوافلُهم وهلكت تجارتُهم ومواشيهم ، وهذا ما أشار الله تعالى إليه بقوله :

{ وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] .

وقال : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [ الحجر : 16 ] .

وقال : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] .

ولذلك اهتم العرب بهذه السماء العجيبة ، وعرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسمّوها بأسماء مخصوصة ، وذكروا في أشعارهم بعضها ، مثل الفَرْقَدَين والدَّبَران ، والعَيُّوق ، والثريا ، والسِّماكَين ، والشِّعْرَيَيْن ، وغيرهما مما ذكر في كتب الفلك والأدب والتفسير والتاريخ . . . .

وقد صور العلامة أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي جميع أسماء الكواكب المستعملة عند العرب في كتابه البديع : صور الكواكب الثمانية والأربعين ، والذي حوى نحو مئتين وخمسين كوكبا . . . .

فالقَسم بهذه السماء البديعة الصنع ، العجيبة التركيب ، وما فيها من نجوم ومجرات ، ومجموعات لا نعلم منها إلا القليل القليل ، قَسَمٌ عظيم ، والذي أقسَمَ أجَلُّ أعظمُ .