اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي اثنان وعشرون آية ، ومائة وتسع كلمات ، وأربعمائة وثمانية وخمسون حرفا .

فصل في نزول السورة

هذه السورة نزلت في تثبيت المؤمنين ، وتصبيرهم على أذى المشركين ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ، فيعلموا أنَّ كفارهم عند الله - تعالى - بمنزلة الأمم السابقة .

وكان من حديث أصحاب الأخدود : أنه كان لبعض الملوك ساحرٌ ، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهبٌ ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ، ثم رأى في طريقه ذات يوم حيَّة قد حبست الناس ، فقال : اللَّهم إن كان هذا الراهب أحبَّ إليك من الساحر فقوّني على قتل هذه الحيَّة ، وأخذ حجراً فرماها به فقتلها ، فأعرض الغلام عن تعلم السحر ، واشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرئُ الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأذى ، فاتفق أن عميَ جليس الملك ، وأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له : إن أنت شفيتني ، فهي لك أجمع ، فقال الغلام : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله - تعالى - دعوته شفاك ، فآمن بالله ، فشفاه الله ، فأبرأه فلما رآه الملك ، قال : من ردَّ عليك بصرك ؟ قال : ربّي ، فغضب الملك وقال : هل لك ربٌّ غيري ؟ قال : ربِّي وربُّك الله ، فعذبه حتى دلَّ على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : يا بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل ؟ فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنَّما يشفي الله تعالى ، فأخذه ، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب ، فجئ بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقَّه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبلِ كذا وكذا ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه من ذُروتهِ ، فذهبوا به ، وصعدوا به الجبل ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فزَحَفَ بهم الجبلُ ، فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، وقال : احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر ، فإن رجع عن دينه وإلاَّ فأغرقوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، ونجا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، وقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وتصلبني على جذعِ نخلةٍ ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبدِ القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارم به واضرب ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ ، وصلبه على جذعٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، فوضعه في القوسِ ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ورماه به فوقع السهم على صدغه ، فمات ، فقال الناس : آمنَّا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك أوقدتْ فيها النيران ، وقال : من لم يرجع منهم طرحته فيها ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الصبي : يا أمَّاه ، اصبري ، فإنَّك على الحق ، فصبرت على ذلك{[1]} .

وفي رواية : أنَّ الدابة التي حبست الناس كانت أسداً ، وأن الغلام دفن ، قيل : إنه خرج في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل{[2]} .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النار ارتفعت من الأخدود ، فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعاً فأحرقتهم{[3]} .

وقال الضحاكُ : هم قوم من النصارى باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسفُ بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيِّفاً وثمانين رجلاً ، وحفر لهم أخدوداً ، وأحرقهم فيه{[4]} . حكاه الماورديُّ . وروي غير ذلك .

قال مقاتلٌ : أصحاب الأخدود ثلاثة : واحدٌ بنجران ، والآخر : بالشَّام ، والآخر : بفارس ، أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصّر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس ، فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآناً ، وأنزل قرآناً في الذي كان بنجران{[5]} .

قال الكلبي : هم نصارى نجران ، أخذوا بها قوماً مؤمنين ، فخذوا لهم سبعة أخاديد ، كل أخدود أربعون ذراعاً ، وعرضه اثنا عشر ذراعاً ، ثم طرحوا فيه النفط ، والحطب ، ثم عرضوهم عليها فمن أبى قذفوه فيها{[6]} .

قوله تعالى : { والسمآء ذَاتِ البروج } . هذا قسم أقسم الله تعالى به ، وفي البروج أقوال :

قيل : والسَّماء ذات النجوم . قاله الحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والضحاكُ{[59744]} . وقال ابنُ عباسٍ وعكرمةُ ومجاهدٌ : هي قصور في السماء{[59745]} .

وقال مجاهد أيضاً : هي البروج الاثنا عشر{[59746]} ، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن سلام .

وقيل : هي منازل القمر .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[59744]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/518)، عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/552)، عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره أيضا عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.
[59745]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/518)، عن ابن عباس.
[59746]:أخرجه الماوردي في "تفسيره" (6/240)، والقرطبي (19/187).