تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البروج

[ وهي مكية ]{[1]}

الآية 1 : وقوله تعالى : { والسماء ذات البروج } فقوله : { ذات البروج } وكذلك ما ذكر عقيبه . ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة :

فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله : { قتل أصحاب الأخدود } [ الآية : 4 ] ومنهم من يقول : القسم ، موضعه على قوله : { إن بطش ربك لشديد } [ الآية : 12 ] وهو أشبه لأنه/634 – بوضع الاحتجاج على الكفرة .

وإذا{[23394]} حمل القسم على قوله : { قتل أصحاب الأخدود } كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين ، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء ، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه ليزال عنه الريب ، وإذا كان المسلمون غير مرتابين في أنبائه ، استغنوا عن تأكيده بالقسم .

فلذلك قلنا : إن صرفه إلى قوله تعالى : { إن بطش ربك لشديد }أليق ، فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله صلى الله عليه وسلم أن بطشه لمن كذب رسوله شديد ، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبإ عاد وثمود وفرعون وغيرهم .

وجائز أن يكون موضع القسم على قوله : { قتل أصحاب الأخدود } وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب وصبر أولئك المعذبين على دينهم وضنهم به وحسن ثناء الله تعالى عليهم تصبير لهم وتهوين على ما يلقون من العذاب لينالوا حسن ثناء الله تعالى لهم : ما ناله من صبر ممن تقدمهم من السلف .

وكذلك ذكر سحرة فرعون ، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون [ حين قالوا : ]{[23395]} { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } [ طه : 72 ] ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من التعذيب ، ثم أكد الأمر بالقسم لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا ، لا يعتريه الشك ، ولا تتخالجه شبهة في ذلك ، فأكد الأمر بالقسم لرفع الريب والإشكال ، وقال تعالى : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } [ آل عمران : 146 ] وفي بعض القراءات : قتل{[23396]} معه ربّيّون كثير .

فذكّر المؤمنون ما لقي السلف من الكفرة ، وابتلوا بقتل الرسل ، وثباتهم على الدين ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل الله ، ولا ينقلبوا{[23397]} على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول .

وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول عليه السلام لعمار رضي الله عنه : ( ( إن عادوا فعد ) ) [ البيهقي في الكبرى 8/209 ] حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه ، فأجرى { وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ليس على الأمر به والإيجاب عليه والتحصيل بطريق العزم . بل معناه : إن عادوا فلك العود على سبيل الرخصة ، لأنه لو كان على الأمر لم يكن في ذكر نبإ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة سوى أن يترك العمل بهما .

ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت ليعمل بها لا ليترك بها العمل . لذلك حمل قوله [ عليه السلام ]{[23398]} : ( ( فعد ) ) على الرخصة لا على الأمر به ويكون المراد من قوله عليه السلام أيضا : ( ( من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا ) ) [ بنحوه : أحمد 2/71 ] أي لم ير العمل به موسعا ، بل استكره ، وأبي قبوله ، لا أن يكون أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة ، والله أعلم .

ثم نرجع إلى قوله تعالى : { والسماء ذات البروج } [ منهم من قال : هي ]{[23399]} البروج المعروفة ، وهي أطراف البناء ، وإذا بنى [ أحدهم ]{[23400]} بناء اتخذ على طرفه برجا ليشدد بناءه به . ومنهم من قال : البروج القصور ، ومنهم من قال : البروج النجوم لقوله تعالى : { ولقد جعلنا السماء بروجا وزيناها للناظرين } [ الحجر : 16 ] وزينة السماء ، هي { بزينة الكواكب } { وحفظا من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 و7 ] . ومنهم من قال : هي مجاري الشمس والقمر والكواكب ؛ فمنازلها هي البروج .

ثم ذكر السماء بالبروج ليعرف حدثها ودخولها تدبير الغير ؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة{[23401]} فيها ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع ، فيعرفوا بها حدثها ، إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخّره ، والمقدور يحدث ، وهم لم يشهدوا بدوها ليعرفوا بها حدتها ، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء لكون محدودا في نفسه ، إذا لم يشاهدوا بدوه .

فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق إذ ذلك أظهر وجود الدلالة على الحدثية ليعلموا بها حديثها . ألا ترى أن إبراهيم ، صلوات الله على نبينا وعليه ، احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها ، إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية ، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع ولا بكونها محدودة في نفسها ، بل احتج عليهم بما ذكرنا ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير .


[1]:- في ط ع: سمح.
[23394]:في الأصل وم: ولو.
[23395]:في الأصل وم: فقالوا.
[23396]:انظر معجم القراءات القرآنية ح2/71.
[23397]:في الأصل وم: ينقلبون.
[23398]:ساقطة من الأصل وم.
[23399]:في م: قال بعضهم.
[23400]:ساقطة من الأصل وم.
[23401]:في الأصل وم: المجعول.