( سورة البروج مكية ، وآياتها 22 آية ، نزلت بعد سورة الشمس ) .
هذه السورة القصيرة تعرض حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني ، وتمجّد الثبات على الحق ، وتبشّر المؤمنين بنصر الدنيا ونعيم الآخرة ، وتهدد الجبارين المعتدين بنقمة الله ولعنته في الدنيا والآخرة .
الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه أخاديد ، وأصحاب الأخدود قوم كافرون ذوو بأس وقوة ، رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم ، فحملوهم على الكفر فأبوا ، فشقوا لهم شقّا في الأرض وحشوه بالنار ، وألقوهم فيه ، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق .
1- تبدأ الفقرة الأولى بالقسم ، وتربط بين السماء ويوم القيامة وبين حادث الأخدود ، ونقمة الله على أصحابه . ( الآيات 1-4 ) .
2- ثم تعرض الفقرة الثانية المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث ، بدون تفصيل ولا تطويل ، مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها . ( الآيات 5-10 ) .
3- ثم يجيء التعقيب بعد ذلك بفوز المؤمنين ، وبشدة بطش الله بالمجرمين ، وبقدرته وهيمنته على الكون ، ثم إشارة سريعة إلى سوابق ممن أخذ من الطغاة كفرعون وثمود . ( الآيات 11-22 ) .
1-3- يقسم الله سبحانه بالسماء ذات الكواكب ، والنجوم الكثيرة التي تنتشر في أرجائها ، ويقسم بيوم القيامة ، ويقسم بالشاهد والمشهود ، والشاهد هم الملائكة تشهد على الناس يوم القيامة ، والمشهود عليه هم الخلائق ، أو الأنبياء تشهد على أممهم يوم القيامة ، أو بجميع ما خلق الله في هذا الكون مما يشهده الناس ، ويرونه رأي العين .
وقصارى ذلك أنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ، ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة .
4- قتل أصحاب الأخدود . أي : أخذوا بذنوبهم ، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة .
وقصة ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن ، رجل ممن كانوا على دين عيسى ابن مريم ، فدعا أهلها إلى دينه ، وكانوا على اليهودية ، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم ، فآمن به قوم منهم ، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم ، وكان يتمسك باليهودية ، فسار إليهم بجنود من حمير ، فلما أخذهم خيّرهم بين اليهودية والإحراق بالنار ، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار ، وصار يؤتى بالرجل منهم فيخيّره فمن جزع من النار ، وخاف العذاب ، ورجع عن دينه ، ورضى باليهودية تركه ، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء ، ألقاه في النار .
ثم بين من هم أصحاب الأخدود ، فقال :
5- النار ذات الوقود . أي أن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار ، التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، فلا جرم يكون حريقها عظيما ، ولهيبها متطايرا .
6- إذ هم عليها قعود . أي : قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار ، وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم ، وهم يعذّبون ويحرقون فيها .
7- وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وهو تعبير يصوّر قسوة قلوبهم ، وتمكّن الكفر منهم ، فإن التعذيب كان يتم بأمرهم ، وكانوا يقعدون على مقربة من النار ، ويشاهدون أطوار التعذيب وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار ، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع .
8 ، 9- وما أنكر أصحاب الأخدود على هؤلاء الذين أحرقوهم بالنار إلا أنهم آمنوا بربهم ، الموصوف بالغلبة والقهر ، والمحمود على نعمه وأفضاله ، الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وهو رقيب على الجميع شاهد على أعمالهم وأحوالهم .
10- إن هناك جزاء عادلا في الآخرة ، وهؤلاء الذين عذبوا المؤمنين وحرقوهم في الدنيا ، ولم يندموا على ما فعلوا ، سيلقون عقابهم في جهنم ، وفي حريق شديد ، لقد أحرقوا المؤمنين بنار الدنيا ، وهي جزء يسير من نار الآخرة ، إذ نارها شديدة ومعها غضب الله على العصاة .
11- وهؤلاء المؤمنون الصادقون يلقون جزاءهم في جنات تجري من تحتها الأنهار ، مع رضوان الله ، وذلك هو الفوز الكبير .
وبهذا يتم الأمر ، وينال كل طرف جزاءه العادل ، فالظالمون الطغاة يلقون عذاب الحريق ، والمؤمنون الصادقون يلقون الجنة ورضوانا من الله أكبر ، ذلك هو الفوز الكبير .
12-16- إن انتقام الله من الظالمين لشديد ، فهو يمهلهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم ، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده يوم القيامة .
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال ، فقال :
1- وهو الغفور . لمن يرجع إليه بالتوبة .
2- الودود . كثير الود والعطاء والمحبة لمن أخلصوا له .
3- ذو العرش . ذو السلطان الكبير والقدرة الكاملة .
4- المجيد . العظيم الكرم والفضل .
5- فعّال لما يريد . سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويختار .
وهو صاحب الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ، ووراء الحياة ووراء كل شيء في الوجود .
17 ، 18- هل أتاك حديث الجنود . الجنود : تطلق تارة على العسكر ، وتطلق تارة أخرى على الأعوان ، والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم ، هل أتاك حديثهم ؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد ؟
فرعون وثمود . لقد أهلك الله فرعون وجنده ، ونجّى موسى ومن آمن معه ، وقصة ثمود مع صالح معروفة ، فقد عقرت الناقة التي جعلها الله لهم آية ، وقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم ، ونجّى صالحا ومن معه من المؤمنين .
وخلاصة ذلك : أن الكفار في كل عصر متشابهون ، وأن حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل ، فهم في عنادهم سواء ، ولكن العاقبة دائما للمتقين ، وبطش الله شديد بالطغاة الظالمين .
19-22- وفي الختام تقرر السورة أن الكفار في كل عصر يكذبون الرسالات ، وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وقدرته ، وهو سبحانه محيط بهم وعالم بجميع أحوالهم ، وسوف يؤاخذهم على عملهم ، وهذا الذي كذّب به قومك كتاب شريف ، متفرد في النظم والمعنى ، محفوظ من التحريف ، مصون من التغيير والتبديل .
1- إظهار عظمة الله وجليل صفاته .
3- عاقبة المتقين الجنة والرضوان ، ونهاية المعتدين الهلاك والحريق .
4- يبيد الله الأمم الطاغية في كل حين ، ولاسيما الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات .
القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود .
{ والسماء ذات البروج 1 واليوم الموعود 2 وشاهد ومشهود 3 قتل أصحاب الأخدود 4 النار ذات الوقود 5 إذ هم عليها قعود 6 وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود 7 وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد 8 الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد 9 إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق 10 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير 11 }
والسماء : أقسم الله بها وبما بعدها .
ذات البروج : ذات المنازل المعروفة للكواكب .
أي : أقسم بالسماء البديعة ذات البروج .
والبروج جمع برج ، وهو القصر العظيم ، أو الحصن .
قال تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة . . . ( النساء : 78 ) .
وتطلق البروج على النجوم والشمس والقمر ، فهي مخلوقات ضخمة ، وكأنها بروج السماء الضخمة ، أي قصورها المبنية ، كما قال سبحانه : والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون . ( الذاريات : 47 ) .
وإما أن تكون البروج هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء .
قسم أقسم الله عز وجل به ، وفي البروج أربعة أقوال :
أحدها : ذات النجوم ، الثاني : ذات القصور ، الثالث : ذات الخلق الحسن ، الرابع : ذات المنازل الخاصة بالكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة ، وهي اثنا عشر منزلا :
الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت . اه .
أقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها .
قال المفسرون : سميت هذه المنازل بروجا لظهورها ، وشبّهت بالقصور لعلوّها وارتفاعها ، لأنها منازل الكواكب السيارة .