89- لا يعاقبكم الله بسبب ما لم تقصدوه من أيْمانكم ، وإنما يعاقبكم بسبب الحنث فيما قصدتموه ووثَّقتموه من الأَيْمان ، فإن حنثتم فيما حلفتم عليه فعليكم أن تفعلوا ما يغفر ذنوبكم بنقض اليمين ، بأن تطعموا عشرة فقراء يوماً ، مما جرت العادة بأن تأكلوه أنتم وأقاربكم الذين هم في رعايتكم ، من غير سَرَفٍ ولا تقتير . أو بأن تكسوا عشرة من الفقراء كسوة معتادة ، أو بأن تحرروا إنساناً من الرق . فإذا لم يتمكن الحالف من أحد هذه الأمور فعليه أن يصوم ثلاثة أيام . وكل واحد من هذه الأمور يغفر به ذنب الحلف الموثق بالنية إذا نقضه الحالف . وصونوا أيْمانَكم فلا تضعوها في غير موضعها ، ولا تتركوا فعل ما يغفر ذنبكم إذا نقضتموها . على هذا النسق من البيان يشرح الله لكم أحكامه ، لتشكروا نعمه بمعرفتها والقيام بحقها{[56]} .
قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه ، فأنزل الله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } .
قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : { عقدتم } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر ( عاقدتم ) بالألف ، وقرأ الآخرون ( عقدتم ) بالتشديد ، أي : وكدتم ، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم .
قوله تعالى : { فكفارته } ، أي : كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم .
قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } ، واختلفوا في قدره ، فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مداً من الطعام ، بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والقاسم ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والحسن ، وقال أهل العراق : لكل مسكين مدان ، وهو نصف صاع ، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، ولو غداهم وعشاهم لا يجوز . وجوزه أبو حنيفة رضي الله عنه ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه . ولا تجوز الدراهم والدنانير ، ولا الخبز ولا الدقيق ، بل يجب إخراج الحب إليهم ، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك . ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز ، وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم ، حر ، محتاج ، فإن صرف إلى ذمي أو عبد ، أو غني ، لا يجوز . وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إلى أهل الذمة . واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز .
قوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، أي من خير قوت عيالكم ، وقال عبيدة السلماني : الأوسط الخبز والخل ، والأعلى الخبز واللحم ، والأدنى الخبز البحت ، والكل مجز .
قوله تعالى : { أو كسوتهم } ، كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخير إن شاء أطعم عشرة من المساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة فاختلفوا في قدرها ، فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوباً واحداً مما يقع عليه اسم الكسوة ، إزار أو رداء ، أو قميص أو عمامة ، أو كساء أو نحوها ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاووس ، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى . وقال مالك : يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجال ثوباً واحداً ، والنساء ثوبين : درعاً وخماراً . وقال سعيد بن المسيب : لكل مسكين ثوبان .
قوله تعالى : { أو تحرير رقبة } ، وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة ، وكذلك جميع الكفارات ، مثل كفارة القتل ، والظهار ، والجماع في نهار رمضان ، يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة ، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها ، إلا في كفارة القتل ، لأن الله تعالى قيد الرقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيد ، كما أن الله تعالى قيد الشهادة بالعدالة في موضع فقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، وأطلق في موضع ، فقال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة :282 ] ، ثم العدالة شرط في جميعها حملاً للمطلق على المقيد ، كذلك هذا ، ولا يجوز إعتاق المرتد بالإنفاق عن الكفارة ، ويشترط أن يكون سليم الرق ، حتى لو أعتق عن كفارته مكاتباً ، أو أم ولد ، أو عبد ، اشترى بشرط العتق ، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة يعتق ، ولكن لا يجوز عن الكفارة ، وجوز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئاً من النجوم ، وعتق القريب عن الكفارة ، ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً ، حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرجلين ، ولا الأعمى ، ولا الزمن ، ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور ، والأصم ، ومقطوع الأذنين والأنف ، لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضرراً بيناً ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : كل عيب يفوت جنساً من المنفعة يمتنع الجواز ، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوز مقطوع الأذنين .
قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ، إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الطعام والكسوة ، وتحرير الرقبة ، يجب عليه صوم ثلاثة أيام ، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله ، وحاجته ، ما يطعم أو يكسو أو يعتق ، فإنه يصوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام ، هو قول الحسن وسعيد بن جبير . واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم ، فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع ، بل إن شاء تابع وإن شاء فرق ، والتتابع أفضل ، وهو أحد قولي الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياساً على كفارة القتل والظهار ، وهو قول الثوري ، وأبي حنيفة ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات .
قوله تعالى : { ذلك } ، أي : ذلك الذي ذكرت .
قوله تعالى : { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } ، وحنثتم ، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث . واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث ، فذهب قوم إلى جوازه ، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنها ، وبه قال الحسن ، وابن سيرين ، وإليه ذهب مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، إلا أن الشافعي يقول : إن كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز ، لأنه بدني ، وإنما يجوز بالإطعام ، أو الكسوة ، أو العتق ، كما يجوز تقديم الزكاة على الحول ، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته ، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث ، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ، قيل : أراد به ترك الحلف ، أي : لا تحلفوا ، وقيل : هو الأصح ، أراد به : إذا حلفتم فلا تحنثوا ، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث ، هذا إذا لم يكن يمينه على ترك مندوب ، أو فعل مكروه ، فإن حلف على فعل مكروه ، أو ترك مندوب ، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا حجاج بن منهال ، أنا جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير ) .
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .
وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات
والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلََكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الأيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوَاْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره للذين كانوا حرّموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حرّموا ذلك بأيمان حلفوا بها ، فنهاهم عن تحريمها ، وقال لهم : لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم .
كما : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم على أنفسهم ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ . . . " الآية .
فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها ، فنزلت هذه الاية بسببهم .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز وبعض البصريين : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ بتشديد القاف ، بمعنى : وكدتم الأيمان وردّدتموها وقرّاء الكوفيين : «بِمَا عَقَدْتُمُ الأَيمَانَ » بتخفيف القاف ، بمعنى : أوجبتموها على أنفسكم ، وعزمت عليها قلوبُكم .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف القاف ، وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل فعلت في الكلام ، إلا فيما يكون فيه تردّد مرّة بعد مرّة ، مثل قولهم : شدّدت على فلان في كذا إذا كرّر عليه الشدّ مرّة بعد أخرى ، فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرّة واحدة قيل : شَددت عليه بالتخفيف . وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة تلزم بالحنث في حلف مرّة واحدة وإن لم يكرّرها الحالف مرّات ، وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه وإن لم يكرّره ولم يردّده ، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لتشديد القاف من عقّدتم وجه مفهوم . فتأويل الكلام إذن : لا يؤاخذكم الله أيها المؤمنون من أيمانكم بما لغوتم فيه ، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها وعقدت عليه قلوبكم . وقد بينا اليمين التي هي لغو والتي الله مؤاخذٌ العبدَ بها ، والتي فيها الحنث والتي لا حنث فيها ، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع .
وأما قوله : بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ فإن هنادا : حدثنا قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " قال : بما تعمدتم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " يقول : ما تعمدتَ فيه المأثم ، فعليك فيه الكفارة .
القول في تأويل قوله تعالى : " فَكَفّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ " .
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله : " فَكَفّارَتُهُ " على ما هي عائدة ، ومن ذكر ما ؟ فقال بعضهم : هي عائدة على «ما » التي في قوله : بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن في هذه الاية : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ قال : هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك ، فلا يؤاخذكم الله ، فلا كفارة ، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلفت عليه على علم .
حدثنا ابن حميد ، وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : اللغو ليس فيه كفارة وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ قال : ما عقد فيه يمينه فعليه الكفارة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، قال : الأيمان ثلاث : يمين تكفّر ، ويمين لا تكفّر ، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها . فأما اليمين التي تكفر ، فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله ، فعليه الكفارة . وأما اليمين التي لا تكفر : فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب ، فليس فيه كفارة . وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها : فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك ، فليس عليه فيه كفارة ، وهو اللغو .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن عطاء ، قال : قالت عائشة : لغو اليمين ما لم يعقد عليه الحالف قلبه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا حماد ، عن إبراهيم ، قال : ليس في لغو اليمين كفارة .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة حدثه أن عائشة قالت : أيمان الكفارة كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدّ من الأمور في غضب أو غيره ليفعلنّ ليتركنّ ، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة ، وقال تعالى ذكره : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي إيمَانِكُمْ وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن يحيى بن سعيد ، وعن عليّ بن أبي طلحة ، قالا : ليس في لغو اليمين كفارة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : " وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " يقول : ما تعمدت فيه المأثم فعليك فيه الكفارة . قال : وقال قتادة : أما اللغو فلا كفارة فيه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : لا كفارة في لغو اليمين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو العبقري ، عن أسباط ، عن السديّ : ليس في لغو اليمين كفارة .
فمعنى الكلام على هذا التأويل : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارة ما عقدتم منها : إطعام عشرة مساكين .
وقال آخرون : الهاء في قوله : فَكَفّارَتُهُ عائدة على اللغو ، وهي كناية عنه . قالوا : وإنما معنى الكلام : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفرتموه ، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحنث والكفارة فيه ، والإقامة على المضيّ عليه غير جائزة لكم ، فكفّارة اللغو منها إذا حنثتم فيه : إطعام عشرة مساكين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " قال : هو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله ، فيرى الذي هو خير منه ، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير . وقال مرّة أخرى قوله : " لايُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ . . . " إلى قوله : " بِمَا عَقّدْتُمُ الأيمَانَ " قال : واللغو من اليمين هي التي تكفر لا يؤاخذ الله بها ، ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له ولم يتحوّل عنه ولم يكفّر عن يمينه ، فتلك التي يؤاخذ بها .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير ، قوله : " لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ " قال : هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي ، فيكفّر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن جبير : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ " قال : هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ، يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ، ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بما عَقّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا داود ، عن سعيد بن جبير ، قال في لغو اليمين : هي اليمين في المعصية ، فقال : أو لا تقرأ فتفهم ؟ قال : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ " قال : فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالمقام عليها . قال : وقال : وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لأَيمَانِكُمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ " قال : هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها . قلت : وكيف يصنع ؟ قال : يكفّر يمينه ، ويترك المعصية .
حدثني يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ " قال : اليمين المكفرة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : اللغو : يمين لا يؤاخذ بها صاحبها ، وفيها كفارة .
والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك ، أن تكون الهاء في قوله : فَكَفّارَتُهُ عائدة على «ما » التي في قوله : " بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ " لما قدّمنا فيما مضى قبل ، أن من لزمته في يمينه كفارة وأوخذ بها غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ : لا يؤاخذه الله باللغو ، وفي قوله تعالى : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ " دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذ بوجه من الوجوه من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ .
فإن ظنّ ظانّ أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ بالعقوبة عليها في الاَخرة إذا حنثتم وكفّرتم ، لا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير ، فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع فأغنى عن إعادته ، دون الباطن العامّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر ولا دلالة من عقل ولا خبر ، أنه عنى تعالى ذكره بقوله : " لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ " بعض معاني المؤاخذة دون جميعها . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذا بها بعقوبة في ماله عاجلة ، كان معلوما أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها . وإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا ، فمعنى الكلام إذن : لا يؤاخذكم الله أيها الناس بلغو من القول والأيمان إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ولا خلاف أمره ولم تقصدوا بها إثما ، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الإثم وأوجبتموه على أنفسكم وعزمت عليه قلوبكم ، ويكفر ذلك عنكم ، فيغطى على سيء ما كان منكم من كذب وزُور قول ويمحوه عنكم ، فلا يتبعكم به ربكم إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : " مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ " .
يعني تعالى ذكره بقوله : { مِنْ أوسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ } : أعدله . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يقول في هذه الآية : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ ، قال عطاء : أوسطه : أعدله ، واختلف أهل التأويل في معنى قوله : " مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ " فقال بعضهم : معناه : من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفر أهاليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبد الله بن حنَشَ ، عن الأسود ، قال : سألته عن : أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : الخبز والتمر والزيت والسمن ، وأفضله اللحم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الله بن حنَشَ ، قال : سألت الأسود بن يزيد ، عن ذلك ، فقال : الخبز والتمر . زاد هناد في حديثه : الزيت ، قال : وأحسبه الخلّ .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر ، والخبز والسمن والخبز والزيت ، ومن أفضل ما يطعمهم : الخبز واللحم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن ليث ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز والجبن ، والخبز والخلّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن حنش ، قال : سألت الأسود بن يزيد عن أوسط ما تطعمون أهليكم ؟ قال : الخبز والتمر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الله بن حنش ، قال : سألت الأسود بن يزيد ، فذكر مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سعيد بن عبد الرحمن ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : الخبز والسمن .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سعيد بن عبد الرحمن ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن ذلك ، فذكر مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أزهر ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ الخبز والسمن .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين ، قال : كانوا يقولون : أفضله الخبز واللحم ، وأوسطه : الخبز والسمن ، وأخسه : الخبز والتمر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال : خبز ولحم ، أو خبز وسمن ، أو خبز ولبن .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا عمر بن هارون ، عن أبي مصلح ، عن الضحاك في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : الخبز واللحم والمرقة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة ، عن يحيى بن حبان الطائي ، قال : كنت عند شريح ، فأتاه رجل ، فقال : إني حلفت على يمين فأثمت قال شريح : ما حملك على ذلك ؟ قال : قدّر عليّ ، فما أوسط ما أطعم أهلي ؟ قال له شريح : الخبز والزيت والخلّ طيب . قال : فأعاد عليه ، فقال له شريح ذلك ثلاث مرار لا يزيده شريح على ذلك . فقال له : أرأيت إن أطعمت الخبز واللحم ؟ قال : ذاك أرفع طعام أهلك وطعام الناس .
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، قال في كفارة اليمين : يغديهم ويعشّيهم خبزا وزيتا ، أو خبزا وسمنا ، أو خلاً وزيتا .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو أسامة ، عن زبرقان ، عن أبي رزين : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ خبز وزيت وخلّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام بن محمد ، قال : أكلة واحدة خبز ولحم . قال : وهو من أوسط ما تطعمون أهليكم ، وإنكم لتأكلون الخبيص والفاكهة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن قال في كفارة اليمين : يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكله واحدة خبزا ولحما ، فإن لم تجد فخبزا وسمنا ولبنا ، فإن لم تجد فخبزا وخلاّ وزيتا حتى يشبعوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن زبرقان ، قال : سألت أبا رزين ، عن كفارة اليمين ما يطعم ؟ قال : خبزا وخلاّ وزيتا من أوسط ما تطعمون أهليكم ، وذلك قدر قوتهم يوما واحدا .
ثم اختلف قائلو ذلك في مَبْلَغِه . فقال بعضهم : مبلغ ذلك نصف صاع من حنطة ، أو صاع من سائر الحبوب غيرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عبد الله بن عمرو بن مرّة ، عن أبيه ، عن إبراهيم ، عن عمر ، قال : إني أحلف على اليمين ثم يبدو لي ، فإذا رأيتني قد فعلت ذلك فأطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدّان من حِنطة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، ويعلى عن الأعمش ، عن شقيق ، عن يسار بن نُمير ، قال : قال عمر : إني أحلف أن لا أعطي أقواما ثم يبدو لي أن أعطيهم ، فإذا رأيتني فعلت ذلك ، فأطعم عني عشرة مساكين بين كلّ مسكينين صاعا من برّ أو صاعا من تمر .
حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن عليّ ، قال : كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين ، لكلّ مسكين نصف صاع من حنطة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ نصف صاع برّ كلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص عن عبد الكريم الجزري ، قال : قلت لسعيد بن جبير : أجمعهم ؟ قال : لا ، أعطهم مدّينَ من حنطة ، مدّا لطعامه ومدّا لإدامه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : قلت لسعيد ، فذكر نحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو زيد ، عن حصين ، قال : سألت الشعبي ، عن كفارة اليمين ، فقال : مكوكين : مكوكا لطعامه ، ومكوكا لإدامه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا هشام ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لكلّ مسكين مدّين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لكلّ مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : مدّان من طعام لكلّ مسكين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا سعد بن يزيد أبو سَلَمة ، قال : سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين ، فقال : أكلة . قلت : فإن الحسن يقول : مكوك برّ ، ومكوك تمر ، فما ترى في مكوك برّ ؟ فقال : إن مكوك برّ لا ، أو مكوك تمر لا . قال يعقوب : قال ابن عُلَية وقال أبو سلمة بيده ، كأنه يراه حسنا ، وقلب أبو سلمة يده .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن الحسن : أنه كان يقول في كفارة اليمين فيما وجب فيه الطعام : مكوك تمر ، ومكوك برّ لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الربيع ، عن الحسن قال ، قال : إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة ، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، قال : كان الحسن يقول : فإن أعطاهم في أيديهم فمكوك برّ ومكوك تمر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك في كفّارة اليمين : نصف صاع لكلّ مسكين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبيه ، عن الحكم ، في قوله : " إطعامُ عَشَرَةِ مَساكِين مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ " قال : إطعام نصف صاع لكلّ مسكين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا زائدة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : " أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ " نصف صاع .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " فَكفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ " قال : الطعام لكلّ مسكين : نصف صاع من تمر أو برّ .
وقال آخرون : بل مبلغ ذلك من كلّ شيء من الحبوب مدّ واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام الدّستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن زيد بن ثابت ، أنه قال في كفارة اليمين : مدّ من حنطة لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال في كفّارة اليمين : مدّ من حنطة لكلّ مسكين رُبْعه إدامُه .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ابن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر : إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكين مدّ .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : مدّ من حنطة لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن عبيد الله ، عن القاسم وسالم في كفّارة اليمين : ما يطعم ؟ قالا : مدّ لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، قال : كان الناس إذا كفّر أحدهم ، كفّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ قال : عشرة أمداد لعشَرة مساكين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : كان يقال : البرّ والتمر ، لكلّ مسكين مدّ من تمر ومدّ من برّ .
حدثنا أبو كريب وهناد ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مالك بن مِغْول ، عن عطاء ، قال : مدّ لكلّ مسكين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : من أوسط ما تعولونهم . قال : وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك مدّا بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة . قال ابن زيد : هو الوسط مما يقوت به أهله ، ليس بأدناه ولا بأرفعه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : مدّ .
وقال آخرون : بل ذلك غَداء وعَشاء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ ، قال في كفّارة اليمين : يغدّيهم ويعشيهم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عمر بن هارون ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي في كفّارة اليمين قال : غداء وعشاء .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : يغدّيهم ويعشيهم .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ : من أوسط ما يطعم المكفّر أهله . قال : إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة ، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعمهم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين ، وإلاّ فعلى ما تطعم أهلك بقدره .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِين مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ وهو أن تطعم كلّ مسكين من نحو ما تطعم أهلك من الشبع ، أو نصف صاع من برّ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : من عسرهم ويسرهم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : من عسرهم ويسرهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : قوتهم .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سليمان العبسي ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : قوتهم .
حدثنا أبو حميد ، قال : حدثنا حكَّام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة ، عن سليمان بن عبيد العبسي ، عن سعيد بن جبير في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : كانوا يفضلون الحرّ على العبد والكبير على الصغير ، فنزلت : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير ، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد ، فقال : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم ، وإن كنت لا تشبعهم ، فعلى قدر ذلك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا شيبان النحويّ ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال : من عسرهم ويسرهم .
حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان عن سليمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : كان الرجل يقوت بعض أهله قوتا دونا وبعضهم قوتا فيه سعة ، فقال الله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ الخبز والزيت .
وأولى الأقوال في تأويل قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ عندنا قول من قال : من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة . وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفّارات كلها بذلك وردت ، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفّارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا لكلّ مسكين ربع صاع . ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات أمر بإطعام خبز وإدام ولا بغَداء وعَشاء . فإذا كان ذلك كذلك ، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته ، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم من أن الواجب على مكفّرها من الطعام مقدار للمساكين العشرة ، محدود بكيل دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم ، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك . فإذ كان صحيحا ما قلنا بما به استشهدنا ، فبيّن أن تأويل الكلام : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم ، وأن «ما » التي في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ بمعنى المصدر ، لا بمعنى الأسماء . وإذا كان ذلك كذلك ، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدّان ، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه ، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين ، وأعدل أقوات المقتر على أهله مدّ وذلك ربع صاع ، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين . وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين الخبز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل ، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا ، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ : من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم ، فجعلوا «ما » التي في قوله : مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ اسما لا مصدرا ، فأوجبوا على المُكفِّر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الأغذية . وذلك مذهب لولا ما ذكرنا من سنن في الكفارات غيرها التي يجب إلحاق أشكالها بها ، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها .
القول في تأويل قوله تعالى : " أوْ كِسْوَتُهُمْ " .
يعني تعالى ذكره بذلك : فكفّارة ما عقدتم من الأيمان إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم . يقول إما أن تطعموهم أو تكسوهم ، والخيار في ذلك إلى المكفّر .
واختلف أهل التأويل في الكسوة التي عنى الله بقوله : " أوْ كِسْوَتُهُمْ " فقال بعضهم : عنى بذلك كسوة ثوب واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفّارة اليمين : أدناه ثوب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، عن الربيع ، عن الحسن ، قال في كفّارة اليمين في قوله : أوْ كِسْوَتهُمْ ثوب لكلّ مسكين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهديّ ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب ثوب . قال منصور : القميص ، أو الرداء ، أو الإزار .
حدثنا أبو كريب وهناد ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : كسوة الشتاء والصيف ثوب ثوب .
حدثنا هناد ، قال : قال حدثنا عمر بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب ثوب لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة بن سلمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : إذا كساهم ثوبا ثوبا أجزأ عنه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن ابن سنان ، عن حماد ، قال : ثوب أو ثوبان ، وثوب لا بدّ منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخُراساني ، عن ابن عباس قال : ثوب ثوب لكلّ إنسان ، وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : الكسوة : عباءة لكلّ مسكين أو شَمْلة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : ثوب ، أو قميص ، أو رداء ، أو إزار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن اختار صاحب اليمين الكسوة ، كسا عشرة أناسيّ كلّ إنسان عباءة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يقول في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ الكسوة : ثوب ثوب .
وقال بعضهم : عنى بذلك : الكسوة ثوبين ثوبين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : عباءة وعمامة .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن داود ابن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب ، قال : عمامة يلُفّ بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن أشعث ، عن الحسن وابن سيرين ، قالا : ثوبين ثوبين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : ثوبين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا أبو كريب وهناد ، قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : ثوبان ثوبان لكلّ مسكين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى : أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من مُعَقّدة البحرين .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن ابن سيرين : أن أبا موسى كسا ثوبين من معقدة البحرين .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن محمد بن عبد الأعلى : أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين ، فرأى أن يكفّر ففعل ، وكسا عشرةً ثوبين ثوبين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن هشام ، عن محمد : أن أبا موسى حلف على يمين فكفّر ، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب ، قال : عباءة وعمامة لكل مسكين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب : «أو كأُسْوَتهم » فقال سعيد : لا إنما هي : «أو كسوتهم » . قال : فقلت : يا أبا محمد ما كسوتهم ؟ قال : لكلّ مسكين عباءة وعمامة ، عباءة يلتحف بها ، وعمامة يشدّ بها رأسه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : الكسوة لكلّ مسكين : رداء وإزار ، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة .
وقال آخرون : بل عَنَى بذلك : كسوتهم : ثوب جامع ، كالملحفة والكساء والشيء الذي يصلح للبس والنوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : الكسوة : ثوب جامع .
حدثنا هناد وابن وكيع قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب جامع . قال : وقال مغيرة : والثوب الجامع المِلحفة أو الكساء أو نحوه ، ولا نرى الدرع والقميص والخِمار ونحوه جامعا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ثوب جامع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : ثوب جامع .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب جامع لكلّ مسكين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وشعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ قال : ثوب جامع .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن المغيرة ، مثله .
وقال آخرون : عنى بذلك كسوة إزار ورداء وقميص . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن بردة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال في الكسوة في الكفّارة : إزار ، ورداء ، وقميص .
وقال آخرون : كل ما كسا فيجزي ، والاية على عمومها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : يجزي في كفّارة اليمين كلّ شيء إلاّ التّبّان .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أشعث ، عن الحسن ، قال : يجزئ عمامة في كفّارة اليمين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أويس الصيرفي ، عن أبي الهيثم ، قال : قال سلمان : نعم الثوب التّبّان .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، عن الحكم ، قال : عمامة يلفّ بها رأسه .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن قول من قال : عنى بقوله : أوْ كِسْوَتُهُمْ : ما وقع عليه اسم كسوة مما يكون ثوبا فصاعدا ، لأن ما دون الثوب لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الاية ، فكان ما دون قدر ذلك خارجا من أن يكون الله تعالى عناه بالنقل المستفيض ، والثوب وما فوقه داخل في حكم الاية ، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها ، وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الاية محتمله من حكم الاية إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، ولا حجة بذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : " أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ " .
يعني تعالى ذكره بذلك : أو فكّ عبد من أسر العبودية وذلها . وأصل التحرير : الفكّ من الأسر ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
أبَنِي غُدَانَةَ إنّنِي حَرّرْتُكُمْ ***فوَهَبْتُكُمْ لعَطِيّةَ بنِ جِعالِ
يعني بقوله : «حررتكم » : فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار . وقيل : تحرير رقبة ، والمحرّر صاحب الرقبة ، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقيد أو حبل أو غير ذلك ، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة . فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير ، بالخبر عن فكّ يديه عن رقبته ، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره ، كما يقال : قبض فلان يده عن فلان : إذا أمسك يده عن نواله وبسط فيه لسانه : إذا قال فيه سوءا ، فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله ، لاستعمال الناس ذلك بينهم وعلمهم بمعنى ذلك ، فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره : " أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ " أضيف التحرير إلى الرقبة وإن لم يكن هناك غلّ في رقبته ولا شدّ يد إليها ، وكان المراد بالتحرير نفس العبد بما وصفنا من جَري استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه .
فإن قال قائل : أفكل الرقاب معنىّ بذلك أو بعضها ؟ قيل : بل معنىّ بذلك كلّ رقبة كانت سليمة من الإقعاد والعمى والخرس وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق ، ونظائر ذلك ، فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب ، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزي في كفّارة اليمين . فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الاية . فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر ، فإنهم معنيون به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا مغيرة ، عن إبراهيم ، أنه كان يقول : من كانت عليه رقبة واجبة ، فاشترى نَسَمة ، قال : إذا أنقذها من عمل أجزأته ، ولا يجوز عتق من لا يعمل ، فأما الذي يعمل كالأعور ونحوه . وأما الذي لا يعمل فلا يجزي كالأعمى والمقعد .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : كان يكره عتق المخبّل في شيء من الكفارات .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى عتق المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات .
وقال بعضهم : لا يجزئ في الكفّارة من الرقاب إلاّ صحيح ، ويجزئ الصغير فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : لا يجزئ في الرقبة إلاّ صحيح .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : يجزئ المولود في الإسلام من رقبة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة . فلا يجزئ إلاّ ما صام وصلّى ، وما كان ليس بمؤمنة فالصبيّ يجزئ .
وقال بعضهم : لا يقال للمولود رقبة إلاّ بعد مدّة تأتي عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن يزيد الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن شعيب بن شابور ، عن النعمان بن المنذر ، عن سليمان ، قال : إذا وُلد الصبيّ فهو نسمة ، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة ، وإذا صلّى فهو مؤمنة .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى عمّ بذكر الرقبة كلّ رقبة ، فأيّ رقبة حرّرها المكفر يمينه في كفّارته فقد أدّى ما كلف ، إلاّ ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى لم يعنه بالتحرير ، فذلك خارج من حكم الاية ، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفار بظاهر التنزيل . والمكفّر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه ، وذلك : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، بإجماع من الجميع لا خلاف بينهم في ذلك . فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ليس كما قلنا لِمَا :
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا سليمان الشيباني ، قال : حدثنا أبو الضحى ، عن مسروق ، قال : جاء نعمان بن مقرّن إلى عبد الله ، فقال : إني آليت من النساء والفراش فقرأ عبد الله هذه الاية : " لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ " قال : فقال نعمان : إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الاية . فقال عبد الله : ائت النساء ونم وأعتق رقبة ، فإنك موسر .
حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم أن سليمان الأعمش حدثه عن إبراهيم بن يزيد النخعي ، عن همام بن الحرث : أن نعمان بن مقرّن سأل عبد الله بن مسعود ، فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة فقال ابن مسعود : " يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ " كفّر عن يمينك ونم على فراشك قال : بم أكفر عن يميني ؟ قال : أعتق رقبة فإنك موسر .
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما ، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه بالتكفير به من الرقاب ، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلاّ بالرقبة ، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال : لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلاّ بالرقبة . والجميع من علماء الأمصار قديمهم وحديثهم مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر ، ففي ذلك مكتفىً عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره .
القول في تأويل قوله تعالى : " فَمَنْ لَمْ يجِدْ فَصِيامُ ثَلاثةٍ أيّامٍ " .
يقول تعالى ذكره : فمن لم يجد لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ ، يقول : فعليه صيام ثلاثة أيام .
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ، ومتى يستحقّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة اسم غير واجد حتى يكون ممن له الصيام في ذلك ؟ فقال بعضهم : إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فإن له أن يكفّر بالصيام ، فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم ، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ولم يجزه الصيام حينئذٍ ، وممن قال ذلك الشافعي . حدثنا بذلك عنه الربيع .
وهذا القول قَصَدَ إن شاء الله مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان من أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم . وبنحو ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الكريم ، عن سعيد ابن جبير ، قال : إذا لم يكن له إلاّ ثلاثة دراهم أطعم . قال : يعني في الكفارة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني معتمر بن سليمان ، قال : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ، ولا يكون عنده من الطعام إلاّ بقدر ما يكفّر ؟ قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : حدثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : إذا كان عنده درهمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر ، عن حماد ، عن عبد الكريم بن أبي أمية ، عن سعيد بن جبير ، قال : ثلاثة دراهم .
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده مِئتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد .
وقال آخرون : جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرّف به لمعاشه ما يكفّر به بالإطعام أن يصوم ، إلاّ أن يكون له كفاية من المال ما يتصرّف به لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفّر به عن يمينه . وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته لا فضل له عن ذلك ، يصوم ثلاثة أيام ، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق . وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين أو يُعتق رقبة ، فلا يجزيه حينئذٍ الصوم لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذٍ من إطعام أو كسوة أو عتق حقّ قد أوجبه الله تعالى في ماله وجوب الدين ، وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرقّ ماله بين غرمائه أنه لا يترك ذلك اليوم إلاّ ما لا بدّ له من قوته وقوت عياله يومه وليلته ، فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى في ماله بسبب الكفّارة التي لزمت ماله .
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين ، فقال بعضهم : صفته أن يكون مواصلاً بين الأيام الثلاثة غير مفرّقها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كلّ صوم في القرآن فهو متتابع إلاّ قضاء رمضان ، فإنه عدّة من أيام أخر .
حدثنا أبو كريب وهناد ، قالا : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : كان أبيّ بن كعب يقرأ : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع ابن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، أنه كان يقرأ : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن قزعة بن سويد ، عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، قال : في قراءة عبد الله : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : في قراءتنا : «فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مُتَتَابِعاتٍ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : في قراءة أصحاب عبد الله : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا هناد وأبو كريب ، قالا : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : في قراءة عبد الله : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن أبي إسحاق : في قراءة عبد الله : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن حميد ، عن معمر ، عن الأعمش ، قال : كان أصحاب عبد الله يقرأون : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : سمعت سفيان ، يقول : إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزه . قال : وسمعته يقول في رجل صام في كفارة يمين ثم أفطر ، قال : يستقبل الصوم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا جامع بن حماد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ قال : إذا لم يجد طعاما وكان في بعض القراءة : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » . وبه كان بأخذ قتادة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة الأوّل فالأوّل ، فإن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات .
وقال آخرون : جائز لمن صامهنّ أن يصومهنّ كيف شاء مجتمعات ومفترقات . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : قال مالك : كلّ ما ذكر الله في القرآن من الصيام ، فأن يصام تباعا أعجب ، فإن فرّقها رجوت أن تجزئ عنه .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى أوجب على من لزمته كفارة يمين إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلاً ، أن يكفّرها بصيام ثلاثة أيام ، ولم يشرط في ذلك متتابعة ، فكيفما صامهنّ المكفّر مفرّقة ومتتابعة أجزأه لأن الله تعالى إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام ، فكيفما أتى بصومهنّ أجزأ . فأما ما رُوي عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما «فصيام ثلاثة أيام متتابعات » فذلك خلاف ما في مصاحفنا ، وغير جائز لنا أن نشهد بشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله . غير أني أختار للصائم في كفّارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ولا يفرّق ، لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفّارته . وهم في غير ذلك مختلفون ، ففعل ما لا يختلف في جوازه أحبّ إليّ وإن كان الاخر جائزا .
القول في تأويل قوله تعالى : " ذَلِكَ كَفّارَةُ أيمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيمَانَكُمْ كذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ " .
يعني تعالى ذكره بقوله : ذَلِكَ هذا الذي ذكرت لكم أنه كَفّارَةُ أيمانِكُمْ من إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم أو تحرير الرقبة ، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيها الذين آمنوا أيمَانَكُمْ أن تحنثوا فيها ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم . كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ كما بين لكم كفارة أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم جميع آياته ، يعني : أعلام دينه ، فيوضحها لكم ، لئلا يقول المضيع المفرّط فيما ألزمه الله : لم أعلم حكم الله في ذلك . لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول : لتشكروا اللهَ على هدايته إيَّاكم وتوفيقه لكم .
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأنْ يقول : والله لا آكل كذا ، أو تجري بسبب غضب . وقيل : إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله . روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك ، كما تقدّم آنفاً ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية . فشرع الله الكفّارة . وتقدّم القول في نَظير صدر هذه الآية في سورة البقرة . وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين . وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية { يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين . فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم .
وقوله : { بما عَقَّدْتُمْ الأيمان } ، أي ما قصدتم به الحَلف . وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة ( 225 ) { بما كَسَبَتْ قلوبُكم }
وقَرَأ الجمهورُ { عقَّدتم } بتشديد القاف . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بتخفيف القاف . وقرأه ابن ذكوان عن ابنِ عامر { عَاقدتم } بألف بعد العين من باب المفاعلة . فأمّا { عقّدتم } بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد ، وكذلك قراءة { عاقدتم } لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافَاه الله . وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت . والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين ، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقَد المخفّف ، وعقَّد المشدّد ، وعَاقَد .
وقوله : { ذلك كفّارة أيمانكم } إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح . والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال . وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر . وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسَّابة وعلاّمة . والعرب يجمعون بينهما غالباً .
وقوله : { إذا حلفتم } أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم ، وذلك هو إثم الحِنث .
وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله : { كفّارة أيمانكم إذا حلفتم } على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث ، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة { كفّارة } إلى { أيمانكم } ، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض ، ولا بأس به .
ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك . وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة . وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة . وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث . ولم يستدلّ بالآية . فاستدلّ بها الشافعي تأييداً للسنّة . والتكفيرُ بعد الحنث أولى .
وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال { واحفظوا أيمانكم } . فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضُرّ بالغير ، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى . فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر ، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلاّ يندموا عن عزمهم ، فكان في قوله { واحفظوا أيمانكم } زجر لهم عن تلك العادة السخيفة . وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلاّ يعرّض الحالف نفسه للحنث . والكفّارة ما هي إلاّ خروج من الإثم . وقد قال تعالى لأيّوب عليه السلام : { وخُذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنَث } [ ص : 44 ] . فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها .
وجملة { كذلك يبيّن الله لكم آياته } تذييل . ومعنى { كذلك } كهذا البيان يبيّن الله ، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّناً ، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وتقدّم القول في معنى { لعلّكم تشكرون } عند قوله تعالى : { يأيّها الناس اعبدوا ربّكم } في سورة البقرة ( 21 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم)، وهو الرجل يَحلِف على أمرٍ، وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، فلا إثم عليه ولا كفارة، (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)، يقول: بما عقد عليه قلبُك، فتحلف وتعلم أنك كاذب، (فكفارته)، يعني: كفارة هذا اليمين الذي عقد عليها قلبه وهو كاذب، (إطعام عشرة مساكين)، لكل مسكين نصف صاع حنطة، (من أوسط ما تطعمون)، يعني من أعدل ما تطعمون (أهليكم) من الشبع، نظيرها في البقرة: (جعلناكم أمة وسطا) (البقرة: 143)، يعني عدلا، قال سبحانه في ن: (قال أوسطهم) (القلم: 28)، يعني أعدلهم، يقول: ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله. ثم قال سبحانه: (أو كسوتهم)، يعني: كسوة عشرة مساكين، لكل مسكين عباءة أو ثوب، (أو تحرير رقبة) ما، سواء أكان المحرر يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا، أو صابئيا، فهو جائز. وهو بالخيار في الرقبة، أو الطعام، أو الكسوة، (فمن لم يجد) من هذه الخصال الثلاث شيئا، (فصيام ثلاثة أيام)، وهي في قراءة ابن مسعود متتابعات، (ذلك) الذي ذكر الله عز وجل (كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم)، فلا تتعمَّدوا اليمينَ الكاذبة، (كذلك يُبيِّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون) ربكم في هذه النعم، إذ جعل لكم مخرجا في إيمانكم فيما ذكر في الكفارة.
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة: 89].
- يحيى: قال مالك: أحسن ما سمعت في هذا. أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذاك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو.
قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89]. -يحيى: قال مالك: وعقد اليمين، أن يحلف الرجل أن لا يبيع ثوبه بعشرة دنانير، ثم يبيعه بذلك. أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه. ونحو هذا. فهذا الذي يكفر صاحبه عن يمينه. وليس في اللغو كفارة.
قال مالك: فأما الذي يحلف على الشيء، وهو يعلم أنه آثم. ويحلف على الكذب، وهو يعلم، ليرضي به أحدا، أو ليعتذر به إلى معتذر إليه، أو ليقطع به مالا، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة.
قوله تعالى: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} [المائدة: 89].
-مكي: قال مالك: إن غداهم وعشاهم أجزأه.
- الباجي: قال مالك: الوسط بالمدينة مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالبلدان التي يكفر فيها بالحنطة، فالوسط من الشبع غداء وعشاء.
قوله تعالى: {أو كسوتهم} [المائدة: 89].
- يحيى: قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة، إن كسا الرجال، كساهم ثوبا ثوبا. وإن كسا النساء، كساهن ثوبين ثوبين. درعا وخمارا. وذلك أدنى ما يجزئ كلا في صلاته.
قوله تعالى: {أو تحرير رقبة} [المائدة: 89].
ابن العربي: قال مالك: إن من لم يملك إلا رقبة أو دارا لا فضل فيهما، أو عرضا، ثمن رقبة لم يجزه إلا العتق.
قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة: 89].
يحيى: قال مالك: وأحب إلي أن يكون، ما سمى الله في القرآن، يصام متتابعا.
- ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يصام تباعا أحب، فإن فرقها رجوت أن تجزي عنه.
- السيوطي: أخرج مالك قال: كنت أطوف مع مجاهد، فجاءه إنسان يسأله عن صيام الكفارة أيتابع؟ قال حميد: فقلت: لا، فضرب مجاهد في صدري، ثم قال: إنها في قراءة أبي ابن كعب: {متتابعات}.
- يحيى: قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا، أو كذا، فصاحبه مخير في ذلك، أي شيء أحب أن يفعل ذلك، فعل.
وعقد اليمين أن يثبتها على الشيء بعينه ألا يفعل الشيء فيفعله، أو ليفعلنه فلا يفعله، أو لقد كان وما كان، فهذا آثم، وعليه الكفارة لما وصفت من أن الله عز وجل قد جعل الكفارات في عمد المأثم...
قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لغو اليمين قول الإنسان: لا والله، وبلى والله 530. فقلت للشافعي: وما الحجة فيما قلت؟ قال: ـ الله أعلم ـ اللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه، وجماع اللغو يكون الخطأ. قال الشافعي: فخالفتموه 531، وزعمتم أن اللغو: حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على خلافه 532. قال الشافعي: وهذا ضد اللغو، وهذا هو الإثبات في اليمين يقصدها، يحلف لا يفعله يمنعه السبب لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَـكِنْ يُّوَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ اَلاَيْمَانَ} 533 ما عقدتم: ما عقدتم به عقد الأيمان عليه. ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه ما منع احتماله ما ذهبت إليه عائشة، وكانت أولى أن تتبع منكم، لأنها أعلم باللسان منكم، مع علمها بالفقه. (الأم: 7/242-243. ون مختصر المزني ص: 290.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للذين كانوا حرّموا على أنفسهم الطيبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حرّموا ذلك بأيمان حلفوا بها، فنهاهم عن تحريمها، وقال لهم: لا يؤاخذكم ربكم باللغو في أيمانكم.
عن ابن عباس، قال: لما نزلت:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى ذكره:" لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ... "الآية.
فهذا يدلّ على ما قلنا من أن القوم كانوا حرّموا على أنفسهم بأيمان حلفوا بها، فنزلت هذه الآية بسببهم.
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز وبعض البصريين:"وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ بتشديد القاف، بمعنى: وكدتم الأيمان وردّدتموها وقرّاء الكوفيين: «بِمَا عَقَدْتُمُ الأَيمَانَ» بتخفيف القاف، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعزمت عليها قلوبُكم.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف القاف، وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل فعلت في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردّد مرّة بعد مرّة، مثل قولهم: شدّدت على فلان في كذا إذا كرّر عليه الشدّ مرّة بعد أخرى، فإذا أرادوا الخبر عن فعل مرّة واحدة قيل: شَددت عليه بالتخفيف. وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم أن اليمين التي تجب بالحنث فيها الكفارة تلزم بالحنث في حلف مرّة واحدة وإن لم يكرّرها الحالف مرّات، وكان معلوما بذلك أن الله مؤاخذ الحالف العاقد قلبه على حلفه وإن لم يكرّره ولم يردّده، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن لتشديد القاف من عقّدتم وجه مفهوم. فتأويل الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها المؤمنون من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها وعقدت عليه قلوبكم. وقد بينا اليمين التي هي لغو والتي الله مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحنث والتي لا حنث فيها، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.
وأما قوله: "بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ"؛ عن مجاهد: "وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ "قال: بما تعمدتم.
عن الحسن: "وَلَكِنْ يَؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة.
" فَكَفّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ":
اختلف أهل التأويل في الهاء التي في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟
فقال بعضهم: هي عائدة على «ما» التي في قوله: بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ. عن الحسن في هذه الآية: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمَانِكُمْ" قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلفت عليه على علم.
عن أبي مالك، قال: الأيمان ثلاث: يمين تكفّر، ويمين لا تكفّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحبها. فأما اليمين التي تكفر، فالرجل يحلف على الأمر لا يفعله ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمد فيه الكذب، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها: فالرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.
قالت عائشة: لغو اليمين ما لم يعقد عليه الحالف قلبه...
فمعنى الكلام على هذا التأويل: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارة ما عقدتم منها: إطعام عشرة مساكين.
وقال آخرون: الهاء في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" عائدة على اللغو، وهي كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحنث والكفارة فيه، والإقامة على المضيّ عليه غير جائزة لكم، فكفّارة اللغو منها إذا حنثتم فيه: إطعام عشرة مساكين. عن ابن عباس قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" قال: هو الرجل يحلف على أمر ضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. وقال مرّة أخرى: واللغو من اليمين هي التي تكفر لا يؤاخذ الله بها، ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له ولم يتحوّل عنه ولم يكفّر عن يمينه، فتلك التي يؤاخذ بها.
عن سعيد بن جبير، قوله: "لا يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيَمانَ" قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفّر.
عن إبراهيم، قال: اللغو: يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة.
والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون الهاء في قوله: "فَكَفّارَتُهُ" عائدة على «ما» التي في قوله: "بِمَا عَقّدْتُمُ الأَيمَانَ" لما قدّمنا فيما مضى قبل، أن من لزمته في يمينه كفارة وأوخذ بها غير جائز أن يقال لمن قد أوخذ: لا يؤاخذه الله باللغو، وفي قوله تعالى: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ" دليل واضح أنه لا يكون مؤاخذا بوجه من الوجوه من أخبرنا تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ.
فإن ظنّ ظانّ أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ" بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثتم وكفّرتم، لا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير، فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمره ونهيه في كتابه على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحة القول به في غير هذا الموضع فأغنى عن إعادته، دون الباطن العامّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر ولا دلالة من عقل ولا خبر، أنه عنى تعالى ذكره بقوله:"لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ باللّغْوِ فِي أيمانِكُمْ "بعض معاني المؤاخذة دون جميعها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفارة في يمين حنث فيها مؤاخذا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلوما أنه غير الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها. وإذا كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذن: لا يؤاخذكم الله أيها الناس بلغو من القول والأيمان إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ولا خلاف أمره ولم تقصدوا بها إثما، ولكن يؤاخذكم بما تعمدتم به الإثم وأوجبتموه على أنفسكم وعزمت عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطى على سيء ما كان منكم من كذب وزُور قول ويمحوه عنكم، فلا يتبعكم به ربكم إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم.
" مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ ": قال عطاء: أوسطه: أعدله، واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ"؛ فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفّر أهاليهم. عن ابن عمر في قوله: مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ قال: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتمر، والخبز والسمن والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكله واحدة خبزا ولحما، فإن لم تجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم تجد فخبزا وخلاّ وزيتا حتى يشبعوا.
ثم اختلف قائلو ذلك في مَبْلَغِه؛
فقال بعضهم: مبلغ ذلك نصف صاع من حنطة، أو صاع من سائر الحبوب غيرها... عن ابن عباس، قال: لكلّ مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين.
وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كلّ شيء من الحبوب مدّ واحد... قال ابن زيد في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" قال: من أوسط ما تعولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك مدّا بمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعَشاء. عن عليّ، قال في كفّارة اليمين: يغدّيهم ويعشيهم.
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ": من أوسط ما يطعم المكفّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عسره ويسره...
وأولى الأقوال في تأويل قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلة والكثرة. وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفّارات كلها بذلك وردت، وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفّارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعا بين ستين مسكينا لكلّ مسكين ربع صاع. ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات أمر بإطعام خبز وإدام ولا بغَداء وعَشاء. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلها سبيل ما تولى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم من أن الواجب على مكفّرها من الطعام مقدار للمساكين العشرة، محدود بكيل دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك. فإذ كان صحيحا ما قلنا بما به استشهدنا، فبيّن أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم، وأن «ما» التي في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء. وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسع على أهله مدّان، وذلك نصف صاع في ربعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين، وأعدل أقوات المقتر على أهله مدّ وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين. وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين الخبز واللحم وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ": من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا «ما» التي في قوله: "مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ" اسما لا مصدرا، فأوجبوا على المُكفِّر إطعام المساكين من أعدل ما يطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهب لولا ما ذكرنا من سنن في الكفارات غيرها التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها.
" أوْ كِسْوَتُهُمْ ": يعني تعالى ذكره بذلك: فكفّارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. يقول إما أن تطعموهم أو تكسوهم، والخيار في ذلك إلى المكفّر.
واختلف أهل التأويل في الكسوة التي عنى الله بقوله:"أوْ كِسْوَتُهُمْ"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك كسوة ثوب واحد. عن مجاهد، قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت.
وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوة ثوبين ثوبين.
وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: كسوتهم: ثوب جامع، كالملحفة والكساء والشيء الذي يصلح للبس والنوم.
وقال آخرون: عنى بذلك كسوة إزار ورداء وقميص.
وقال آخرون: كل ما كسا فيجزي، والآية على عمومها... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن قول من قال: عنى بقوله: "أوْ كِسْوَتُهُمْ": ما وقع عليه اسم كسوة مما يكون ثوبا فصاعدا، لأن ما دون الثوب لا خلاف بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك خارجا من أن يكون الله تعالى عناه بالنقل المستفيض، والثوب وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها، وغير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية محتمله من حكم الآية إلاّ بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك.
" أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ": أو فكّ عبد من أسر العبودية وذلها. وأصل التحرير: الفكّ من الأسر، وقيل: تحرير رقبة، والمحرّر صاحب الرقبة، لأن العرب كان من شأنها إذا أسرت أسيرا أن تجمع يديه إلى عنقه بقيد أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فكّ يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبر عن إطلاقه من أسره، كما يقال: قبض فلان يده عن فلان: إذا أمسك يده عن نواله. وبسط فيه لسانه: إذا قال فيه سوءا، فيضاف الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم وعلمهم بمعنى ذلك، فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره:"أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ "أضيف التحرير إلى الرقبة وإن لم يكن هناك غلّ في رقبته ولا شدّ يد إليها، وكان المراد بالتحرير نفس العبد بما وصفنا من جَري استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه.
فإن قال قائل: أفكل الرقاب معنىّ بذلك أو بعضها؟ قيل: بل معنىّ بذلك كلّ رقبة كانت سليمة من الإقعاد والعمى والخرس وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك، فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزي في كفّارة اليمين. فكان معلوما بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به.
وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفّارة من الرقاب إلاّ صحيح، ويجزئ الصغير فيها... عن إبراهيم، قال: ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة. فلا يجزئ إلاّ ما صام وصلّى، وما كان ليس بمؤمنة فالصبيّ يجزئ.
وقال بعضهم: لا يقال للمولود رقبة إلاّ بعد مدّة تأتي عليه. عن سليمان، قال: إذا وُلد الصبيّ فهو نسمة، وإذا انقلب ظهرا لبطن فهو رقبة، وإذا صلّى فهو مؤمنة.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى عمّ بذكر الرقبة كلّ رقبة، فأيّ رقبة حرّرها المكفر يمينه في كفّارته فقد أدّى ما كلف، إلاّ ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريره في الكفار بظاهر التنزيل. والمكفّر مخير في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، بإجماع من الجميع لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع ليس كما قلنا لِمَا:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا سليمان الشيباني، قال: حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء نعمان بن مقرّن إلى عبد الله، فقال: إني آليت من النساء والفراش فقرأ عبد الله هذه الآية:"لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ "قال: فقال نعمان: إنما سألتك لكوني أتيت على هذه الآية. فقال عبد الله: ائت النساء ونم وأعتق رقبة، فإنك موسر...
ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإن ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه بالتكفير به من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلاّ بالرقبة، لأنه لم ينقل أحد عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلاّ بالرقبة. والجميع من علماء الأمصار قديمهم وحديثهم مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائز للموسر، ففي ذلك مكتفىً عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره.
" فَمَنْ لَمْ يجِدْ فَصِيامُ ثَلاثةٍ أيّامٍ ": فمن لم يجد لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام.
ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ"، ومتى يستحقّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة اسم غير واجد حتى يكون ممن له الصيام في ذلك؟ فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، فإن له أن يكفّر بالصيام، فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفير بالإطعام أو الكسوة ولم يجزه الصيام حينئذ، وممن قال ذلك الشافعي.
وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده مِئتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد.
وقال آخرون: جائز لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرّف به لمعاشه ما يكفّر به بالإطعام أن يصوم، إلاّ أن يكون له كفاية من المال ما يتصرّف به لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفّر به عن يمينه. وهذا قول كان يقوله بعض متأخري المتفقهة.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلاّ قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين أو يُعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذٍ من إطعام أو كسوة أو عتق حقّ قد أوجبه الله تعالى في ماله وجوب الدين، وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرقّ ماله بين غرمائه أنه لا يترك ذلك اليوم إلاّ ما لا بدّ له من قوته وقوت عياله يومه وليلته، فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى في ماله بسبب الكفّارة التي لزمت ماله.
واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين؛ فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلاً بين الأيام الثلاثة غير مفرّقها. عن مجاهد، قال: كلّ صوم في القرآن فهو متتابع إلاّ قضاء رمضان، فإنه عدّة من أيام أخر.
عن الربيع بن أنس، قال: كان أبيّ بن كعب يقرأ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات».
وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهنّ كيف شاء مجتمعات ومفترقات. والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أوجب على من لزمته كفارة يمين إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلاً، أن يكفّرها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرط في ذلك متتابعة، فكيفما صامهنّ المكفّر مفرّقة ومتتابعة أجزأه، لأن الله تعالى إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتى بصومهنّ أجزأ. فأما ما رُوي عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد بشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غير أني أختار للصائم في كفّارة اليمين أن يتابع بين الأيام الثلاثة ولا يفرّق، لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفّارته. وهم في غير ذلك مختلفون، ففعل ما لا يختلف في جوازه أحبّ إليّ وإن كان الآخر جائزا.
" ذَلِكَ كَفّارَةُ أيمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيمَانَكُمْ كذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ": ذَلِكَ هذا الذي ذكرت لكم أنه كَفّارَةُ أيمانِكُمْ من إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أيها الذين آمنوا أيمَانَكُمْ أن تحنثوا فيها ثم تضيعوا الكفارة فيها بما وصفته لكم. "كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ" كما بين لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته، يعني: أعلام دينه، فيوضحها لكم، لئلا يقول المضيع المفرّط فيما ألزمه الله: لم أعلم حكم الله في ذلك. "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": لتشكروا اللهَ على هدايته إيَّاكم وتوفيقه لكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225 والمائدة: 89] إنه عز وجل ذكر يمينا لا يؤاخذ فيها في موضعين من غير أن ذكر أنها: أي يمين هي؟ ولا بأي شيء، لا يؤاخذ فيها؟ والحاجة لازمة. إن ذلك في موضع الامتنان منه، جل وعلا، في العفو عن أمر كان له المؤاخذة. وحق على السامع معرفة منة الله تعالى ليشكره عليها. ثم معلوم أن اليمين لو كانت بالطلاق والعتاق كان صاحب ذلك يؤاخذ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن ثلاثا جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والنكاح» [أبو داوود: 2194]. واللاغي لا يعدو أمرين مع ما كان يلزمان بلا شرط، يصير به الموقع حالفا. وأعظم ما في دفع المؤاخذة في اليمين أن يدفع عنه اليمين، وهما يجبان دونهما، فيقعان من غير أن كان في الآية ذكر التفضيل. ولكن تجب معرفة حقيقة ذلك بالذي بينا من الخبر والنظر مع ما يعرف في ذلك خلافا. وهذا يوضح أن العفو في ما كانت الأيمان بالله تعالى...
ثم احتج قوم بوجوب الكفارة بعقد اليمين بقوله: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)... وفي الجملة: أمر الله أن يوفوا بعهده لا أن ينقضوا، وقد جعلت اليمين عهده، وأمرنا بوفائه، فنقضه يوجب الخلف في وعده والنقض لعهده، فيأثم الحالف لا بالحل. فلذا تجب الكفارة. ولو كانت لليمين كفارة لكان الحنث أحق أن يوجب الكفارة...
والثاني أن يكون على إضمار حين يؤاخذكم بحنثكم في ما عقدتم. وذلك غير مدفوع في حق الكفارات كقوله تعالى: (فإن أحصرتم) الآية [البقرة: 196] وقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) الآية [البقرة: 196] لا على الوجوب للعدو ولكن باستعمال الرخصة فيه، إذ لا يكون العدو سببا لإيجاب. فمثله في الأول لا يكون تعظيم الرب سبب إيجاب الكفارة، فيصير الحنث فيه مضمرا، والله أعلم. والإضافة إلى الأيمان على إرادة الحنث فيها كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام والدم إلى الحج والسجود إلى السهو [من م، في الأصل: السجود]، وإن كانت الكفارات ليست لما أضيفت إليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم...
{بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية... والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة. لأنه كان معلوماً عندهم، أو بنكث ما عقدتم. فحذف المضاف {فَكَفَّارَتُهُ} فكفارة نكثه. والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها. {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} من أقصده، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله... والمعنى {إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم. فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف، لا بنفس الحلف،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الأيمان} جمع يمين وهي الأِلَّية، سميت يميناً لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية. وقوله تعالى: {فكفارته} معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما، ويحتمل {ما} في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه. و {إطعام عشرة مساكين} معناه إشباعهم مرة،... وقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم} إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة. وقوله {إذا حلفتم} معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ الْمُنْفَعِلَةُ من الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا مُنْتَظِمًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ من ذَلِكَ بِلِسَانِهِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}: وَقَوْلُهُ: {تُطْعِمُونَ} يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً؛ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا...
.وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً عَادَةً، وَمِنْهُم مَنْ قَدَّرَهَا ...
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}: يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: احْفَظُوهَا، فَلَا تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. الثَّانِي: احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ؛ فَبَادِرُوا إلَى مَا لَزِمَكُمْ. الثَّالِثُ: احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ. وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا من الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر، وهو الصوم...
ثم قال تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} قوله {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوما، كما قال: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{إطعام عشرة مساكين} اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزى في الكفارة إطعام غني...
. {أو كسوتهم} قال كثير من العلماء: يجزى ثوب واحد لمسكين، لأنه يقال فيه كسوة، وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فالرجل ثوب واحد، وللمرأة قميص وخمار. {أو تحرير رقبة} اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك. {فمن لم يجد} أي: من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل: هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله: {كذلك} أي مثل هذا البيان العظيم الشأن {يبين الله} أي على ما له من العظمة {لكم آياته} أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه. ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة: {لعلكم تشكرون} أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه.. فأما من ناحية "خصوص السبب "فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب، وما حرمه فهو الخبيث. وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له. من وجهين: الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله، ولا يستقيم معه إيمان.. والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات، التي بها صلاحه وصلاح الحياة؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات. ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده. ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال. وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر. وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسَّابة وعلاّمة. والعرب يجمعون بينهما غالباً.
وقوله: {إذا حلفتم} أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحِنث.
والمؤاخذة هي إنزال عقوبة بمن له معك عهد فخالفه بعمل جريمة نص عليها؛ فلا يؤاخذه أبدا بجريمة لم ينص عليها، ولا يتم توقيع عقاب على أحد دون تحذير مسبق. ولذلك ففي القانون المدني يقولون: لا عقوبة إلا بجريمة ولا جريمة إلا بنص...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في ختام الآيات يبيّن القرآن أنّ هذه الآيات توضح لكم الأحكام التي تضمن سعادة الفرد والمجتمع وسلامتها لتشكروه على ذلك: (كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تشكرون).