100- ومن يهاجر طالباً بهجرته مناصرة الحق وتأييده ، يجد في الأرض التي يسير فيها مواضع كثيرة يرغم بها أنف أعداء الحق ، ويجد سعة الحرية والإقامة العزيزة ، وله بذلك الثواب والأجر العظيم ، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى موطن الدولة العزيزة التي هي دولة الله ورسوله ، ثم يدركه الموت قبل أن يصل فقد ثبت أجره ، وتَكَرَّم الله فجعل الأجر حقا عليه ، وغفر له ورحمه ، لأن من شأنه الغفران والرحمة .
قوله تعالى : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعةً } ، قال بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : { مراغماً } أي : متحولاً يتحول إليه ، وقال مجاهد : متزحزحاً عما يكره ، وقال أبو عبيدة : المراغم : المهاجر ، يقال : راغمت قومي وهاجرتهم ، وهو المضطرب والمذهب ، قيل : سميت المهاجرة مراغمة لأن من يهاجر يراغم قومه ، ( وسعة ) أي في الرزق ، وقيل سعة من الضلالة إلى الهدى ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة ، فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله عز وجل ، وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، أخرجوني . فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت ، فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجراً ، وضحك المشركون وقالوا : ما أدراك هذا ما طلب ، فأنزل الله : قوله تعالى : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت } أي : قبل بلوغه إلى مهاجره .
قوله تعالى : { فقد وقع }أي : وجب .
قوله تعالى : { أجره على الله } ، بإيجابه على نفسه فضلاً منه .
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية ؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها ؛ وتشفق من التعرض لها . وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معا . فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة - سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه - في حالة الهجرة في سبيل الله ، وبضمان الله للمهاجر منذ ان يخرج من بيته مهاجرا في سبيله . ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق ، فلا تضيق به الشعاب والفجاج :
( ومن يهاجر - في سبيل الله - يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة . ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما ) . .
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة ؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة ؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة ؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين .
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة ؛ فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ؛ ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى . .
فهو أولا يحدد الهجرة بأنها ( في سبيل الله ) . . وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء ، أو هجرة للنجاة من المتاعب ، أو هجرة للذائذ والشهوات ، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة . ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض ، ولا يعدم الحيلة والوسيلة . للنجاة وللرزق والحياة :
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) . .
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق ، مرهونة بأرض ، ومقيدة بظروف ، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم ، وتسكت على الفتنة في الدين ؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس . مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله . . إنه سيجد في أرض الله منطلقا وسيجد فيها سعة . وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه ، يحييه ويرزقه وينجيه . .
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله . . والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم . وسواء أقام أم هاجر ، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة . . والمنهج يراعي هذا ويعالجه . فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله :
( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - ثم يدركه الموت - فقد وقع أجره على الله )
أجره كله . أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام . . فماذا بعد ضمان الله من ضمان ؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب . وهذا فوق الصفقة الأولى .
إنها صفقة رابحة دون شك . يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى - خطوة الخروج من البيت مهاجرا إلى الله ورسوله - والموت هو الموت . في موعده الذي لا يتأخر . والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة . ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده . ولخسر الصفقة الرابحة . فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة . بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالما لنفسه !
وشتان بين صفقة وصفقة ! وشتان بين مصير ومصير !
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس - إلى هذا الموضع - عدة اعتبارات ، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات .
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله ؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد . . اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر ، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . .
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } : ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين ، { في سَبِيلِ الله } يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه ، وذلك الدين القيم . { يَجِدْ في الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا } يقول : يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغما كثيرا ، وهو المضطرب في البلاد والمذهب ، يقال منه : راغم فلان قومه مُراغَما ومراغمة مصدران ، ومنه قول نابغة بني جعدة :
كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكانِهِ ***عَزِيزِ المُرَاغَمِ والمَهْرَبِ
وقوله : { وَسَعَةً } فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة ، وذلك منعهم إياهم من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية ثم أخبر جلّ ثناؤه عمن خرج مهاجرا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودابر الهجرة ، فقال : من كان كذلك فقد وقع أجره على الله ، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه . يقول جلّ ثناؤه : ومن يخرج مهاجرا من داره إلى الله وإلى رسوله ، فقد استوجب ثواب هجرته إن لم يبلغ دار هجرته باخترام المنية إياه قبل بلوغه إياها على ربه . { وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما } يقول : ولم يزل الله تعالى ذكره غفورا ، يعني : ساترا ذنوب عباده المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها رحيما بهم رفيقا . وذكر أن هذه الاَية نزلت بسبب بعض من كان مقيما بمكة وهو مسلم ، فخرج لما بلغه أن الله أنزل الاَيتين قبلها ، وذلك قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . إلى قوله : { وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا } فمات في طريقه قبل بلوغه المدينة . ذكر الاَخبار الواردة بذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } قال : كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، قال : فلما أمروا بالهجرة كان مريضا ، فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ففعلوا ، فأتاه الموت وهو بالتنعيم ، فنزلت هذه الاَية .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال : نزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } في ضمرة بن العيص بن الزنباع ، أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع ، حين بلغ التنعيم مات فنزلت فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوام التيمي بنحو حديث يعقوب ، عن هشيم ، قال : وكان رجلاً من خزاعة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَمَنْ يُهاجِرْ في سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً } . . . الاَية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الاَيات ورجل من المؤمنين يقال له ضمرة بمكة ، قال : والله إن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها وإني لأهتدي ، أخرجوني ! وهو مريض حينئذ . فلما جاوز الحرم قبضه الله فمات ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ } . . . الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } قال رجل من المسلمين يومئذ وهو مريض : والله مالي من عذر إني لدليل بالطريق ، وإني لموسر ، فاحملوني ! فحملوه فأدركه الموت بالطريق ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت عكرمة يقول : لما أنزل الله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . الاَيتين ، قال رجل من بني ضمرة وكان مريضا : أخرجوني إلى الرّوْح ! فأخرجوه ، حتى إذا كان بالحَصْحَاص مات ، فنزل فيه : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن المنذر بن ثعلبة ، عن علباء بن أحمر اليشكري ، قوله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } قال : نزلت في رجل من خزاعة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرّة ، عن الضحاك في قول الله جلّ وعزّ : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } قال : لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربت وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ قال لأهله : أخرجوني ! وقد أدنف للموت . قال : فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها ، فتوفي ، فأنزل الله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . الاَية .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، قال : لما سمع بهذه يعني بقوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . إلى قوله : { وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا } ضمرةُ بن جندب الضمري قال لأهله وكان وجعا : أرحلوا راحلتي ، فإن الأخشبين قد غماني يعني : جبلي مكة لعلي أن أخرج فيصيبني روح ! فقعد على راحلته ثم توجه نحو المدينة فمات بالطريق ، فأنزل الله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } . وأما حين توجه إلى المدينة ، فإنه قال : اللهمّ مهاجر إليك وإلى رسولك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت هذه الاَية ، يعني قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ } قال جندب بن ضمرة الجندعي : اللهمّ أبلغت في المعذرة والحجة ، ولا معذرة لي ولا حجة . قال : ثم خرج وهو شيخ كبير فمات ببعض الطريق ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مات قبل أن يهاجر ، فلا ندري أعلى ولاية أم لا ؟ فنزلت : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . الاَية ، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبيّ صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة ، وكان ممن عذر الله كان شيخا كبيرا وضيئا ، فقال لأهله : ما أنا ببائت الليلة بمكة ! فخرجوا به مريضا حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه الموت ، فنزل فيه : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ } . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً } قال : هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمات في الطريق . فسخر به قومه واستهزءوا به ، وقالوا : لا هو بلغ الذي يريد ، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن ! قال : فنزلت القرآن : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُه على اللّهِ } .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الاَية : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } وكان بمكة رجل يقال له ضمرة من بني بكر وكان مريضا ، فقال لأهله : أخرجوني من مكة ، فإني أجد الحرّ ! فقالوا : أين نخرجك ؟ فأشار بيده نحو المدينة . فنزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } . . . إلى آخر الاَية .
حدثني الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { لا يَسْتَوِى القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولي الضّرَرِ } قال : رخص فيها قوم من المسلمين ممن كان بمكة من أهل الضرر حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين ، فقالوا : قد بين الله فضيلة المجاهدين على القاعدين ورخص لأهل الضرر . حتى نزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . إلى قوله : { وَساءَتْ مَصيرا } قالوا : هذه موجبة . حتى نزلت : { إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } ، فقال ضمرة بن العيص الزرقي أحد بني ليث ، وكان مصاب البصر : إني لذو حيلة لي مال ولي رقيق ، فاحملوني ! فخرج وهو مريض ، فأدركه الموت عند التنعيم ، فدفن عند مسجد التنعيم ، فنزلت فيه هذه الاَية : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ } . . . الاَية .
واختلف أهل التأويل في تأويل المراغَم ، فقال بعضهم : هو التحوّل من أرض إلى أرض . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { مُرَاغَما كَثِيرا } قال : المراغم : التحوّل من الأرض إلى الأرض .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : { مُرَاغَما كَثِيرا } يقول : متحوّلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا } قال : متحوّلاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن أو قتادة : { مُرَاغَما كَثِيرا } قال : متحوّلاً .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا } قال : مندوحةً عما يكره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : { مُرَاغَما كَثِيرا } قال : مزحزحا عما يكره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { مُرَاغَما كَثيرا } قال : متزحزحا عما يكره .
وقال آخرون : مبتغَى معيشةٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا } يقول : مبتغى للمعيشة .
وقال آخرون : المراغم : المهاجر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مُرَاغَما } المراغم : المهاجر .
قال أبو جعفر : وقد بينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل .
واختلفوا أيضا في معنى السّعَة التي ذكرها الله في هذا الموضع فقال : { وَسَعَة }¹ فقال بعضهم : هي السعة في الرزق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً } قال : السّعة في الرزق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً } قال : السعة في الرزق .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَسَعَةَ } يقول : سعة في الرزق .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَةً } : أي والله من الضلالة إلى الهدى ، ومن العيلة إلى الغنى .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطربا ومتسعا¹ وقد يدخل في السّعة ، السعة في الرزق ، والغنى من الفقر¹ ويدخل فيه السعة من ضيق الهمّ ، والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة ، وغير ذلك من معاني السّعة التي هي بمعنى الرّوْح والفرج من مكروه ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظهراني المشركين وفي سلطانهم . ولم يضع الله دلالة على أنه عنى بقوله : «وسعة » بعض معاني السعة التي وصفنا ، فكل معاني السّعة هي التي بمعنى الروح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش وغمّ جوار أهل الشرك وضيق الصدر ، بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والاَلهة ، داخل في ذلك .
وقد تأوّل قوم من أهل العلم هذه الاَية ، أعني قوله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّهِ } أنها في حكم الغازي يخرج للغزو فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلاً فيموت ، أن له سهمه من المغنم وإن لم يكن شهد الوقعة . كما :
3518 حدثني المثنى ، قال : حدثنا يوسف بن عديّ ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد ابن أبي حببب ، أن أهل المدينة يقولون : من خرج فاصلاً وجب سهمه¹ وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ } .
والمراغم : المتحول والمذهب ، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم ، ومنه قول النابغة الجعدي : [ المتقارب ]
كَطود يلاذ بأَرْكَانِهِ *** عَزِيزٌ المراغِمِ وَالْمَذْهَبِ{[4234]}
إلى بَلِدٍ غَيْرِ داني الْمَحَلّ *** بَعِيدِ المرَاغمِ والْمُضْطَرَبْ{[4235]}
وقال مجاهد : «المراغم » المتزحزح عما يكره ، وقال ابن زيد : «المراغم » المهاجر ، وقال السدي : «المراغم » المبتغى للمعيشة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا كله تفسير بالمعنى ، فأما الخاص باللفظة ، فإن «المراغم » موضع المراغمة ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة . وكذلك الطود الذي ذكر النابغة ، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل{[4236]} فقد أرغم أنف ذلك الطالب .
وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مَرْغماً » بفتح الميم وسكون الراء دون ألف . قال أبو الفتح : هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم ، والجماعة على «مراغم » ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم : { السعة } هنا هي السعة في الرزق ، وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وقال مالك : السعة سعة البلاد .
قال القاضي رحمه الله : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون «السعة » في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [ حطان بن المعلّى ] .
لَكَانَ لي مَضْطَرَبٌ وَاسِعٌ *** في الأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والْعَرْضِ{[4237]}
وَكُنْتُ إذَا خَليلٌ رامَ قَطْعي وَجَدْتُ وَرَاي مُنْفَسَحاً عَرِيضاً{[4238]}
وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى : { ألم تكن أرض الله واسعة } وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق ، وقوله تعالى { ومن يخرج من بيته } الآية : حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه ، أما أنه لا يقال : إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة ، ولكن يقال : وقع له بذلك أجر عظيم ، وروي : أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة ، وقيل : من خزاعة من بني ليث ، وقيل : من جندع{[4239]} ، لما سمع قول الله عز وجل { الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } قال : إني لذو مال وعبيد - وكان مريضاً - فقال : أخرجوني إلى المدينة ، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم{[4240]} ، فنزلت الآية بسببه ، واختلف في اسمه ، فحكى الطبري عن ابن جبير : أنه ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، وحكي عن السدي : أنه ضمرة بن جندب ، وحكي عن عكرمة : أنه جندب بن ضمرة الجندعي ، وحكي عن ابن جبير أيضاً : أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث ، وحكى أبو عمر بن عبد البر : أنه ضمرة بن العيص ، وحكى المهدوي : أنه ضمرة بن نعيم ، وقيل : ضمرة بن خزاعة ،
وقرأت الجماعة «ثم يدركْه الموت » بالجزم عطفاً على { يخرج } وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركُه » برفع الكاف - قال أبو الفتح : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله ، فهما إذن جملة ، فكأنه عطف جملة على جملة ، وعلى هذا حمل يونس بن جبيب قول الأعشى : [ البسيط ]
إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْلِ عَادَتُنا *** أو تَنْزِلُونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ{[4241]}
المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [ رويشد بن كثير الطائي ] : [ البسيط ]
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتيني بِقيتُكُمْ *** فَمَا عَلَيّ بِذَنْبٍ عِنْدكُمْ فَوتُ{[4242]}
المعنى : ثم أنتم تأتيني . وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر : [ الوافر ]
ألم يأتيكَ وألأنباءُ تنمى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4243]}
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركَه » بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن » كقول الأعشى : [ الطويل ]
لَنَا هضبةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَها *** وَيَأْوِي إلْيها الْمُسْتَجيرُ فَيُعْصَمَا{[4244]}
أراد : فأن يعصم - قال أبو الفتح : وهذا ليس بالسهل وإنما بابه اشعر لا القرآن ، وأنشد ابن زيد : [ الوافر ]
سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ *** وأَلحقُ بالحِجَازِ فأَسْترِيحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف{[4245]} .
قال القاضي أبو محمد : ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازياً فله سهمه من الغنيمة ، قاسوا ذلك على «الأجر » ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي - وجب - لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة . فشبه لازم المعاني بذلك وباقي الآية بيّن .
جملة { ومن يهاجر } عطف على جملة { إنّ الذين توفّاهم الملائكة } [ النساء : 97 ] ، و ( مَن ) شرطية . والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله . والسبيل استعارة معروفة ، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير ، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية . والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض ، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب . أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره ، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام ، أي التراب ، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه ، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :
لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغــم
إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم . ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة . والسعة ضد الضيق ، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة ، وتطلق على رفاهية العيش ، فهي سعة مجازية . فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير ، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس ، ومن جهة راحة الإقامة .
ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد الخروج من بلد الكفر ، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه . بقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } الخ . ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله . وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه ، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول ، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة .
ومعنى { يدركه الموت } ، أي في الطريق ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم يدركه الموت مهاجراً ، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية : فقيل : الهجرة إلى المدينة ، وقيل : الهجرة إلى الحبشة . واختلف في المعني بالموصول من قوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } . فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فلمّا نزل قوله تعالى : { إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله : وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 97 100 ] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة ، وكان هذا الرجل مريضاً ، فقال : إني لَذو مال وعبيد ، فدعا أبناءَه وقال لهم : احملوني إلى المدينة .
فحملوه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم توفّي ، فنزلت هذه الآية فيه ، وتعمّ أمثاله ، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول .
وكان هذا الرجل من كنانة ، وقيل من خزاعة ، وقيل من جُنْدَع ، واختلف في اسمه على عشرة أقوال : جندب بن حمزة الجندعي ، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي . ضمرة بن بغيض الليثي ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن ضمرة بن نعيم . ضمرة من خزاعة ( كذا ) . ضمرة بن العيص . العيص بن ضمرة بن زنباع ، حبيب بن ضمرة ، أكثم بن صيفي .
والذين قالوا : إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا : إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين ، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات . وسياق الشرط يأبى هذا التفسير .