** وقوله : يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ يقول جلّ ذكره مخبرا عن صفة نفسه : يعلم ربكم ما خانت أعين عباده ، وما أخفته صدورهم ، يعني : وما أضمرته قلوبهم يقول : لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى ما يحدّث به نفسه ، ويضمره قلبه إذا نظر ماذا يريد بنظره ، وما ينوي ذلك بقلبه وَاللّهُ يَقْضِي بالحَقّ يقول : والله تعالى ذكره يقضي في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور عند نظر العيون بالحق ، فيجزي الذين أغمضوا أبصارهم ، وصرفوها عن محارمه حذارَ الموقف بين يديه ، ومسألته عنه بالحُسنى ، والذين ردّدوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش إذا قدَرت ، جزاءها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد المَرْوَزِيّ ، قال : حدثنا عليّ بن حسين بن واقد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ إذا نظرت إليها تريد الخيانة أم لا وما تُخْفِي الصّدُورُ إذا قدرت عليها أتزني بها أم لا ؟ قال : ثم سكت ، ثم قال : ألا أخبركم بالتي تليها ؟ قلت نعم ، قال : وَاللّهُ يَقْضِي بالْحَقّ قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ قال الحسن : فقلت للأعمش : حدثني الكلبيّ ، إلا أنه قال : إن الله قادر على أن يجزي بالسيئة السيئة ، وبالحسنة عشرا . وقال الأعمش : إن الذي عند الكلبيّ عندي ، ما خرج مني إلا بحقير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد يَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ قال : نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : خائِنَةَ الأَعْيُنِ : أي يعلم همزه بعينه ، وإغماضه فيما لا يحبّ الله ولا يرضاه .
وقوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ يقول : والأوثان والاَلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون بالله من قومك من دونه لا يقضون بشيء ، لأنها لا تعلم شيئا ، ولا تقدر على شيء ، يقول جلّ ثناؤه لهم : فاعبدوا الذي يقدر على كلّ شيء ، ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، فيجزي محسنكم بالإحسان ، والمسيء بالإساءة ، لا ما لا يقدر على شيء ولا يعلم شيئا ، فيعرف المحسن من المسيء ، فيثيب المحسن ، ويعاقب المسيء .
وقوله : إنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ يقول : إن الله هو السميع لما تنطق به ألسنتكم أيها الناس ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، محيط بكل ذلك محصيه عليكم ، ليجازي جميعكم جزاءه يوم الجزاء .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة : «وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ » بالتاء على وجه الخطاب . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء على وجه الخبر .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : { يعلم خائنة الأعين } متصل بقوله : { سريع الحساب } [ غافر : 17 ] لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكرة ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون . وقالت فرقة : { يعلم } متصل بقوله : { لا يخفى على الله منهم شيء } [ غافر : 16 ] ، وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية وكثرة الحائل . والخائنة : مصدر كالخيانة ، ويحتمل في الآية أن يكون { خائنة } اسم فاعل ، كما تقول : ناظرة الأعين إذا خانت في نظرها .
وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات ، فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى ، أو يريد بها صاحبها معنى ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه عبد الله بن أبي سرح ليسلم بعد ردته بشفاعة عثمان ، فتلكأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعه ، ثم قال عليه السلام لأصحابه : «هلا قام إليه رجل حين تلكأت عليه فضرب عنقه ؟ » ، فقالو يا رسول الله : ألا أومأت إلينا ؟ فقال عليه السلام : «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين »{[9980]} وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل : أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون . وقال مجاهد : { خائنة الأعين } : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز : ثم قوى تعالى هذه الأخبار بأنه يعلم ما تخفي الصدور مما لم يظهر على عين ولا غيرها ، ومثل المفسرون في هذه الآية بنظر رجل إلى امرأة هي حرمة لغيره ، فقالوا { خائنة الأعين } : هي النظرة الثانية . { وما تخفي الصدور } : أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن المرء دفعها ، وهذا المثال جزء من { خائنة الأعين } .
يجوز أن تكون جملة { يعلم خائِنة الأعين } خبراً عن مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله : { إن الله سريع الحساب } [ غافر : 17 ] على نحو ما قرر قبله في قوله : { رفيعُ الدرجات } [ غافر : 15 ] . ومجموع الظاهر والمقدر استئناف للمبالغة في الإِنذار لأنهم إذا ذُكِّروا بأن الله يعلم الخفايا كان إنذاراً بالغاً يقتضي الحذر من كل اعتقاد أو عمل نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ، فبعد أن أيْأَسهم من شفيع يسعى لهم في عدم المؤاخذة بذنوبهم أيأسهم من أن يتوهموا أنهم يستطيعون إخفاء شيء من نواياهم أو أدنى حركات أعمالهم على ربهم . ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن اسم إنَّ في قوله : { إن الله سريع الحساب } [ غافر : 17 ] ، وما بينهما اعتراض كما مرّ على كلا التقديرين .
و { خائِنة الأعين } مصدر مضاف إلى فاعله فالخائنة مصدر على وزن اسم الفاعل مثل العَافية للمعافاة ، والعاقبة ، والكاذبة في قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] ويجوز إبقاء { خائنة } على ظاهر اسم الفاعل فيكون صفة لموصوف محذوف دل عليه { الأعين ، } أي يعلم نظرة الأعين الخائنة .
وحقيقة الخيانة : عمل مَن أؤتُمِن على شيء بضد مَا أؤتُمنَ لأجله بدون علم صاحب الأمانة ، ومن ذلك نقضُ العهد بدون إعلان بنبذه . ومعنى : { خائِنة الأعين } خيانة النظر ، أي مسارقة النظر لشيء بحضرة من لا يحب النظر إليه . فإضافة { خائنة } إلى { الأعين } من إضافة الشيء إلى آلتِه كقولهم : ضرب السيف .
والمراد ب { خائنة الأعين } النظرة المقصود منها إشعار المنظور إليه بما يسوء غيرها الحاضرَ استهزاء به أو إغراء به . وإطلاق الخائنة بمعنى الخيانة على هذه النظرة استعارة مكنية ، شبه الجليس بالحليف في أنه لما جلس إليك أو جلست إليه فكأنه عاهدك على السلامة ، ألا ترى أن المجالسة يتقدّمها السلام وهو في الأصل إنباء بالمسالمة فإذا نظرت إلى آخر غَيْرِكُما نظراً خفياً لإِشارة إلى ما لا يرضي الجليسَ من استهزاء أو إغراء فكأنك نقضت العهد المدخول عليه بينكما ، فإطلاق الخيانة على ذلك تفظيع له ، ويتفاوت قربُ التشبيه بمقدار تفاوت ما وقعت النظرة لأجله في الإِساءة وآثار المضرة . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « ما يَكون لنبي أن تكون له خَائنة الأعين » ، أي لا تصدر منه .
و { وما تُخفي الصدور } النوايا والعزائم التي يضمرها صاحبها في نفسه ، فأطلق الصدر على ما يكنّ الأعضاء الرئيسية على حسب اصطلاح أصحاب اللغة .