الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلۡأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ} (19)

وقوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين } مُتَّصِلٌ بقوله : { سَرِيعُ الحساب } [ غافر : 17 ] وقالتْ فرقة : { يَعْلَمُ } متصلٌ بقوله : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيء } وهذا قولٌ حسنٌ يقوِّيهِ تَنَاسُبُ المَعْنَيينِ ، ويُضَعِّفُه بُعْدُ الآيةِ من الآيةِ وكَثْرَةُ الحائِل ، والخائنةُ : مصدرٌ كالخِيَانَةِ ، ويحتمل أن تكونَ { خَائِنَةَ } اسمَ فاعِل ، أي : يعلم الأعين إذا خانتْ في نظَرِها ، قال أبو حَيَّان : والظاهرُ أن : { خَائِنَةَ الأعين } من إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ ، أي : الأَعْيُنِ الخائنة ، كقوله

وَإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسقينا ***

أي : الناسَ الكرامَ ، وجوَّزُوا أن يكونَ { خَائِنَةَ } مصدراً ، كالعافية أي : يعلم خِيانَةَ الأعينِ ، انتهى ، وهذه الآيةُ عِبَارَةٌ عَن عِلم اللَّهِ تعالى بجميعِ الخفيَّاتِ ، فمِنْ ذَلِكَ كَسْرُ الجُفُونِ والغَمْزُ بالعَيْنِ ، أو النظرةُ التي تُفْهِمُ معنًى ؛ ومنه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابِه في شَأْنِ رَجُلٍ ارتد ثمَّ جَاء لِيُسْلِمَ : " هَلاَّ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْكُمْ حِينَ تَلَكَّأْتُ عَنْهُ ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ ؟ فقالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ أَومَأْتَ إلَيْنَا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ " ، وفي بعضِ الكتبِ المنزَّلةِ مِنْ قَولِ اللَّه عزَّ وجلَّ : أَنَا مِرْصَادُ الْهِمَمِ أَنَا العَالِمُ بِمَجَالِ الْفِكْرِ وَكَسْرِ الجُفُونِ ، وقال مجاهدٌ : ( خائنة الأعين ) : مُسَارَقَةُ النظرِ إلى مَا لاَ يَجُوزُ ، ثم قَوَّى تعالى هذا الإخبارَ بقولهِ : { وَمَا تُخْفِى الصدور } مما لمْ يَظْهَر على عينٍ ولا غَيْرِهَا ، وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن مولى أمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : " اللهمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ ، وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ ، وعَيْنِي مِنَ الخِيَانَةِ ؛ فإنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُدُورُ " ، انتهى . قال القُشَيْرِيُّ في : «التحبير » : " وَمَنْ عَلِمَ اطِّلاَعَ الحقِّ تعالى عليه يكونُ مُرَاقِباً لربِّهِ ؛ وعلامتُه أنْ يكونَ مُحَاسِباً لِنَفْسِهِ ، ومَنْ لم تَصِحَّ محاسبتُهُ ، لم تصحَّ مراقبتُهُ ، وسُئِلَ بعضُهُمْ عَمَّا يَسْتَعِينُ به العبدُ على حفظِ البصر ، فقال : يَسْتَعِينُ عليه بعلمِه أنَّ نظرَ اللَّه إليه سَابِقٌ على نظرِهِ إلى مَا ينظرُ إليه " انتهى .