قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } روى محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب . قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها حتى جاءني جبريل ، فقال لي : يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عساً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به . ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة من اللحم ، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى مالهم بشيء حاجة ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم : ثم قال : اسق القوم فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا جميعاً ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الغد : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فأعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم ، ففعلت ثم جمعت فدعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيتي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعاً ، فقلت وأنا أحدثهم سناً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف يا صباحاه ، فقالوا : من هذا ؟ فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ، ثم قام : فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب } وقد تب هكذا قرأ الأعمش يومئذ .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، وقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذبا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } فقال : " يا معشر قريش ، أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عياض بن جمان المجاشعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، وأنه قال : إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشاً ، فقلت : يا رب إنهم إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزةً ، فقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وقد أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء ، تقرؤه في المنام واليقظة ، فاغزهم نغزك ، وأنفق ننفق عليك ، وابعث جيشاً نمددك بخمسة أمثالهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، ثم قال : أهل الجنة ثلاثة : إمام مقسط ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني متعفف متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له ، الذين هم فيكم تبع لا يتبعون بذلك أهلاً ولا مالاً ، ورجل أصبح يخادعك عن أهلك ومالك ، ورجل لا يخفى له طمع وإن دق إلا ذهب به ، والشنظير الفاحش وذكر البخل والكذب .
ولما أمره بما فيه كمال نفسه ، أمره بتكميل غيره فقال : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } .
الذين هم أقرب الناس إليك ، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي ، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس ، كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان ، ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " فيكون هذا خصوصا{[584]} دالا على التأكيد ، وزيادة الحق ، فامتثل صلى الله عليه وسلم ، هذا الأمر الإلهي ، فدعا سائر بطون قريش ، فعمم وخصص ، وذكرهم ووعظهم ، ولم يُبْق صلى الله عليه وسلم من مقدوره شيئا ، من نصحهم ، وهدايتهم ، إلا فعله ، فاهتدى من اهتدى ، وأعرض من أعرض .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .
عطف على قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص . ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته . ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ندائه لهم : " لا أغني عنكم من الله شيئاً " ، وأن فيه تعريضاً بقلة رعي كثير منهم حق القرابة إذ آذاه كثير منهم وعصَوْه مثل أبي لهب فلا يحسبوا أنهم ناجون في الحالتين وأن يعلموا أنهم لا يكتفَى من مؤمنهم بإيمانه حتى يضم إليه العمل الصالح ؛ فهذا مما يدخل في النذارة ، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية قرابتَه مؤمنين وكافرين .
ففي حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في « صحيحي البخاري ومسلم » يجمعها قولهم : « لمّا نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله على الصَّفا فدعا قريشاً فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فقال : يا معشر قريش ، فعَمَّ وخص ، يا بني كعب بنِ لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، اشتروا أنفسكم من الله لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً ، غيرَ أنَّ لكم رَحِماً سأبُلُّها ببلاَلها » وكانت صفية وفاطمة من المؤمنين وكان إنذارهما إعمالاً لفعل الأمر في معانيه كلها من الدعوة إلى الإيمان وإلى صالح الأعمال ؛ فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإنذار من الشرك والإنذار من المعاصي لأنه أنذر صفية وفاطمة وكانتا مسلمتين .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عديّ ، لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكُم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدّقِيَّ ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : تبّاً لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت { تبت يَدا أبي لهب وتبَّ ما أغنى عنه ماله وما كسب } [ المسد : 1 - 2 ] .
وهذا الحديث يقتضي أن سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب مع أن سورة أبي لهب عُدّت السادسة في عداد نزول السور ، وسورة الشعراء عُدّت السابعة والأربعين . فالظاهر أن قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } نزل قبل سورة الشعراء مفرداً ، فقد جاء في بعض الروايات عن ابن عباس في « صحيح مسلم » : لمّا نزلت « وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطَك منهم المخلصين » وأن ذلك نسخ . فلعل الآية نزلت أول مرة ثم نسخت تلاوتها ثم أعيد نزول بعضها في جملة بسورة الشعراء .
والعشيرة : الأدْنَوْن من القبيلة ، فوصف { الأقربين } تأكيد لمعنى العشيرة واجتلاب لقلوبهم إلى إجابة ما دعاهم إليه وتعريض بأهل الإدانة منهم .
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهنّد .
وإلى هذا يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في آخر الدعوة المتقدمة « غير أن لكم رحماً سأبُلُّها ببلالها » أي ذلك منتهى ما أملك لكم حين لا أملك لكم من الله شيئاً ، فيحق عليكم أن تبُلُّوا لي رحمي مما تملكون ، فإنكم تملكون أن تستجيبوا لي .
وتقدم ذكر العشيرة في قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } في سورة [ براءة : 24 ] .