قوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } أي : منكم أنبياء .
قوله تعالى : { وجعلكم ملوكاً } ، أي فيكم ملوكا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أصحاب خدم وحشم ، قال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ، ولم يكن لمن قبلهم خدم . وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ، وامرأة ، ودابة ، يكتب ملكا " . وقال أبو عبد الرحمن الجيلي : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم ، قال ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : فإن لي خادماً ، قال : فأنت من الملوك . قال السدي : { وجعلكم ملوكاً } أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم ، قال الضحاك : كانت منازلهم واسعة ، فيها مياه جارية ، فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك .
قوله تعالى : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } ، يعني عالمي زمانكم ، قال مجاهد : يعني المن ، والسلوى ، والحجر ، وتظليل الغمام .
{ 20 - 26 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }
إلى آخر القصة{[260]} لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم ، ذهبوا قاصدين لأوطانهم ومساكنهم ، وهي بيت المقدس وما حواليه ، وقاربوا وصول بيت المقدس ، وكان الله قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم . فوعظهم موسى عليه السلام ؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم : { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } بقلوبكم وألسنتكم . فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة ، { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ } يدعونكم إلى الهدى ، ويحذرونكم من الردى ، ويحثونكم على سعادتكم الأبدية ، ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون { وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } تملكون أمركم ، بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم لكم ، فكنتم تملكون أمركم ، وتتمكنون من إقامة دينكم .
{ وَآتَاكُمْ } من النعم الدينية والدنيوية { مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ } فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق ، وأكرمهم على الله تعالى . وقد أنعم عليهم بنعم ما كانت لغيرهم .
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ، { وجعلكم ملوكا } أي وجعل منكم أو فيكم ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى ، وقيل : لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكا . { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله ، وقيل : المراد بالعالمين عالمي زمانهم .
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة . وقرأ ابن محيصن «يا قومُ » بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن . وروي ذلك عن ابن كثير . و { نعمة الله } هنا اسم الجنس ، ثم عدد عيون تلك النعم ، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عسى عليه السلام ، والأنبياء حاطة{[4502]} ومنقذون من النار ، وشرف في الدنيا والآخرة . وقوله : { وجعلكم ملوكاً } يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها ، والمعنى الآخر : أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحراراً تملكون ولا تملكون ، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره . وقال قتادة إنما قال : { وجعلكم ملوكاً } لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل . وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضاً مذ تناسلوا وكثروا ، وإنما تختلفت الأمم في معنى التملك فقط ، وقال عبد الله ابن عمرو بن العاص والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وأمرأة وخادم فهو ملك ، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك ، وقوله تعالى : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير : الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه ، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله ؟ فقال مجاهد ، المن والسلوى والحجر{[4502]} والغمام ، وقال غيره : كثرة الأنبياء .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق ، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعاَلمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه ، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك ، قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه ، وكلمته الحجارة والبهائم ، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته ، وانشق له القمر ، وعاد العود سيفاً ، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة ، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه .
عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدّم القول في نظائر { وإذ قال } في مواضع منها قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة } في البقرة ( 30 ) .
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيداً لطلب امتثالهم .
وقدّم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليُهيّىء نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليُوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعَدّ لهم ثلاث نعم عظيمة :
أولاها : أنّ فيهم أنبياء ، ومعنى جَعْل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياءَ ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأنّ هذه القصّة وقعتْ بعد موت هارون ؛ فيكون قوله { أنبياءَ } جمعاً أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأنّ الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجِنس انحصر في فرد يومئذٍ ، كقوله تعالى { يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا } [ المائدة : 44 ] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء . فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح 15 من الخروج ) . وكذلك ألْدَاد ومَيْدَاد كانا نبيئين في زمنَ موسى ، كما في التّوراة ( إصحاح11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمانَ الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضاً حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .
والثانية : أنْ جعلهم ملوكاً ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها ، من الآموربين ، والعَناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل { جعلكم } في معنى الاستقبال مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] قصداً لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .
والنعمة الثالثة : أنّه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، ومَا صدقُ ( ما ) يجوز أن يكون شيئاً واحداً ممّا خَصّ الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيّدهم بالنّصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقَهُم المنّ والسلوى أربعين سنة ، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رُسله .