قوله تعالى : { الصابرين والصادقين } . إن شئت نصبتها على المدح ، وإن شئت خفضتها على النعت ، يعنى الصابرين في أداء الأوامر ؛ وعن ارتكاب النهي ، وعلى البأساء والضراء وحين البأس ، والصادقين في إيمانهم . قال قتادة : هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، فصدقوا في السر والعلانية .
قوله تعالى : { والقانتين } المطيعين المصلين .
قوله تعالى : { والمنفقين } أموالهم في طاعة الله .
قوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } . قال مجاهد : وقتادة ، والكلبي : يعني المصلين بالأسحار . وعن زيد بن أسلم أنه قال : هم الذين يصلون الصبح في الجماعة وقيل السحر لقربه من الصبح . وقال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا ، وقال نافع : كان ابن عمر رضي الله عنهما يحيي الليل ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصلاة فإذا قلت : نعم ، قعد وأخذ يستغفر الله ويدعو حتى يصبح .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أنا قتيبة ، أنا يعقوب ابن عبد الله ، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الليل فيقول : أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له " .
وحكي عن الحسن أن لقمان قال لابنه : يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك ، يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك .
ثم فصل أوصاف التقوى . فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم ، حالا ولا مقاما ، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم ، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر ، قال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون ربهم . فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي ، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما ، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها ، ووصف أهل الجنة وهم المتقون ، ثم فصل خصال التقوى ، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه ، هل هو من أهل الجنة أم لا ؟
ثم قال : { الصَّابِرِين } أي : في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { وَالصَّادِقِينَ } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة
{ وَالقَانِتِينَ } والقنوت : الطاعة والخضوع{[4890]} { والْمُنفِقِينَ } أي : من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخَلات ، ومواساة ذوي الحاجات { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار .
وقد قيل : إن يعقوب ، عليه السلام ، لما قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] أنه أخرهم إلى وقت السحر . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند{[4891]} والسنن ، من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر{[4892]} فيقولُ : هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه ؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ ؟ " الحديث{[4893]} وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على حدة{[4894]} فرواه من طرق متعددة .
وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ{[4895]} .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السَّحَر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن حُرَيْث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا ابن مسعود ، رضي الله عنه{[4896]} .
وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة .
قوله : { الصابرين والصادقين } الآية صفات للذين اتّقوا ، أو صفات للذين يقولون ، والظاهر الأوّل . وذكر هنا أصول فضائل صفات المتديّنين : وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي . والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبثّ الثقة بين أفراد الأمة .
والقنوت ، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية . والإنفاق وهو أصل إقامة أوَد الأمة بكفاية حاجة المحتاجين ، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس . وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل ، والسحر سُدس الليل الأخيرْ ؛ لأنّ العبادة فيه أشدّ إخلاصاً ، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس ، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته ، فاختار له هؤلاء الصادقُون آخرَ الليل لأنّه وقت صفاء السرائر ، والتجرّد عن الشواغل .
وعطف في قوله : { الصابرين } ، وما بعده : سواء كان قوله : { الصابرين } صفة ثانية ، بعد قوله : { الذين يقولون } ، أممِ كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم ، فيكون ، بالعطف وبدونه ، مثل تعدّد الأخبار والأحوال ؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات . وفي « الكشاف » ؛ أنّ في عطف الصفات نكْتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كلّ صفة منها ، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } [ البقرة : 4 ] مع أنّه لم يبيّن هنالك شيئاً من هذا ، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك ، وكلامه يقتضي أنّ الأصل عنده في تعدّد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذناً بمعنى خصوصي ، يقصده البليغ ، ولعل وجهه أنّ شأن حرف العطف أن يُستغنَى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات ، وليس كذلك الصفات ، فإذا عُطفت فقد نُزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة ، وما ذلك إلاّ لقوة الموصوف في تلك الصفة ، حتى كأنّ الواحد صار عدداً ، كقولهم واحدٌ كألْف ، ولا أحسب لهذا الكلام تسليماً . وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } في سورة البقرة .