المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

48- واذكروا - أيها المسلمون - حينما حَسَّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته قائلا لهم : إنه لا يستطيع أحد من الناس أن يغلبهم ، ويؤكد لهم أنه مجير لهم ، فلما تقابل الفريقان في الحرب بطل كيده ووسوسته ورجع مدبراً ، وتبرأ منهم ، وخاف أن يهلكه الله ، والله شديد العقاب على الذنوب .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

قوله تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } ، وكان تزيينه أن قريشاً لما اجتمعت للسير ، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته ، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . قوله تعالى : { وقال } ، لهم .

قوله تعالى : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } ، أي : مجير لكم من كنانة . قوله تعالى : { فلما تراءت الفئتان } ، أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء ، وعلم أنه لا طاقة له بهم .

قوله تعالى : { نكص على عقبيه } ، قال الضحاك : ولى مدبراً ، وقال النضر بن شميل : رجع القهقرى على قفاه هارباً ، قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة ، آخذاً بيد الحارث ابن هشام ، فنكص على عقبيه ، فقال له الحارث : أفراراً من غير قتال ؟ فجعل يمسكه ، فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس ، فلما قدموا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : بلغني أنكم تقولون : إني هزمت الناس ، فوالله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغني هزيمتكم ، فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا ؟ فحلف لهم ، فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان قال الحسن في قوله { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } قال : رأى إبليس جبريل معتجراً ببرد ، يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي يده اللجام يقود الفرس ، ما ركب بعد ، وقال قتادة : كان إبليس يقول : إني أرى ما لا ترون وصدق . وقال { إني أخاف الله } ، وكذب والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه ، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم . وقال عطاء : إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك ، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه ، وقيل : معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره .

قوله تعالى : { والله شديد العقاب } . وقيل : معناه إني أخاف الله عليكم { والله شديد العقاب } قيل : انقطع الكلام عند قوله { أخاف الله } ثم يقول الله : { والله شديد العقاب } . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن إبراهيم بن أبي علية ، عن طلحة بن عبد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام ، إلا ما كان من يوم بدر ، فقيل : وما رأى يوم بدر ؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة ) . هذا حديث مرسل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ْ } حسَّنها في قلوبهم وخدعهم . { وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ْ } فإنكم في عَدَدٍ وعُدَدٍ وهيئة لا يقاومكم فيها محمد ومن معه .

{ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ْ } من أن يأتيكم أحد ممن تخشون غائلته ، لأن إبليس قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكانوا يخافون من بني مدلج لعداوة كانت بينهم .

فقال لهم الشيطان : أنا جار لكم ، فاطمأنت نفوسهم وأتوا على حرد قادرين .

{ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ ْ } المسلمون والكافرون ، فرأى الشيطان جبريل عليه السلام يزع الملائكة خاف خوفا شديدا و { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ْ } أي : ولى مدبرا . { وَقَالَ ْ } لمن خدعهم وغرهم : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ْ } أي : أرى الملائكة الذين لا يدان لأحد بقتالهم .

{ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ْ } أي : أخاف أن يعاجلني بالعقوبة في الدنيا { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }

ومن المحتمل أن يكون الشيطان ، قد سول لهم ، ووسوس في صدورهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، وأنه جار لهم ، فلما أوردهم مواردهم ، نكص عنهم ، وتبرأ منهم ، كما قال تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ْ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

وقوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } الآية : حسَّن لهم - لعنه الله - ما جاؤوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال : أنا جار لكم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم ، سيد بني مُدْلج ، كبير تلك الناحية ، وكل ذلك منه ، كما قال [ الله ]{[13056]} تعالى عنه : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 120 ] .

قال ابن جريج{[13057]} قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين : أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم . فلما التقوا ، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه } قال : رجع مدبرا ، وقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } الآية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين ، معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك{[13058]} بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين وأقبل جبريل ، عليه السلام ، إلى إبليس ، فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبرا هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وذلك حين رأى الملائكة .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ } فتشبث{[13059]} الحارث بن هشام فنخر في وجهه ، فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة ، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا . فقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }

وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة ، عن شعبة - مولى ابن عباس - عن ابن عباس قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه ، فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف . وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم{[13060]} اليوم من الناس . فلما أبصر عدوُّ الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث ، فسقط الحارث ، وانطلق إبليس{[13061]} لا يرى حتى سقط في البحر ، ورفع ثوبه وقال : يا رب ، موعدك الذي وعدتني{[13062]} .

وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه{[13063]} ذكرناه في السيرة .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت{[13064]} قريش المسير{[13065]} ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة - فقال : أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا .

قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك{[13066]} لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام - أو : عمير بن وهب - فقال : أين ، أي سراق ؟{[13067]} ومثل عدو الله فذهب - قال : فأوردهم ثم أسلمهم - قال : ونظر عدو الله إلى جنود الله ، قد أيد الله بهم رسوله{[13068]} والمؤمنين فانتكص{[13069]} على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وصدق عدو الله ، وقال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }{[13070]} وهكذا روي عن السدي ، والضحاك ، والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم ، رحمهم الله .

وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل ، عليه السلام ، تنزل معه{[13071]} الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } وكذب عدو الله ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .

قلت : يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } [ الحشر : 16 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] .

وقال يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى{[13072]}

فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ، فيقول له : أبشر فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم ، كروا عليهم . فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه . ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذًا . وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } [ الأعراف : 123 ] ، وكقوله { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [ طه : 71 ] ، وهو من باب البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة .

وقال مالك بن أنس ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[13073]} عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رُئِيَ إبليس في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزل الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر " . قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟ قال : " أما إنه رأى جبريل ، عليه السلام ، يزغ الملائكة " {[13074]}

هذا مرسل من هذا الوجه .


[13056]:زيادة من م.
[13057]:في ك: "جرير".
[13058]:في ك: "مالك المدلجي".
[13059]:في ك: "فتشبث به".
[13060]:في م: "لكم".
[13061]:في أ: "إبليس هاربا".
[13062]:المغازي للواقدي (1/70).
[13063]:المعجم الكبير (5/42) من طريق عبد العزيز بن عمران عن رفاعة بن يحيى بن معاذ بن رفاعة عن رفاعة بن رافع، رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (6/82): "وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف".
[13064]:في د، م، أ: "اجتمعت".
[13065]:في د: "للسير".
[13066]:في ك: "مالك المدلجي، وكان من أشراف ركانة".
[13067]:في د، أ: "إلى أين يا سراقة"، وفي ك، م: "أين أين سراقة".
[13068]:في أ: "رسله".
[13069]:في د، ك، م، أ: "فنكص".
[13070]:في ك، م، أ: "إني أخاف عقاب الله" وهو خطأ.
[13071]:في د: "نزل مع".
[13072]:انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/633).
[13073]:في ك: "علية".
[13074]:الموطأ (1/422) وانظر كلام الإمام ابن عبد البر عن هذا الحديث في: التمهيد (1/115).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

{ وإذ زيّن لهم الشيطان } مقدر باذكر . { أعمالهم } في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها بأن وسوس إليهم . { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } مقالة نفسانية والمعنى : أنه ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين ، ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا . { فلما تراءت الفئتان } أي تلاقى الفريقان . { نكص على عقبيه } رجع القهقرى أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم . { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة ، وقيل : لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الإحنة وكاد ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحارث بن هشام فقال له : إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة فقال إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : { إني أخاف الله } إني أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر . { والله شديد العقاب } يجوز أن يكون من كلامه وان يكون مستأنفا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

{ وإذ زين } عطف على { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } [ الأنفال : 44 ] الآية . وما بينهما اعتراض ، رُتّب نظمه على أسلوبه العجيب ؛ ليقع هذا الظرف عقب تلك الجمل المعتَرضة ، فيكون له إتمام المناسبة بحكاية خروجهم وأحوالِه ، فإنّه من عجيب صنع الله فيما عرض للمشركين من الأحوال في خروجهم إلى بدر ، ممّا كان فيه سبب نصر المسلمين ، وليقع قوله : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } [ الأنفال : 47 ] عَقِب أمر المسلمين بما ينبغي لهم عند اللقاء ، ليجمع لهم بين الأمر بما ينبغي والتحذير ممّا لا ينبغي ، وترك التشبه بمن لا يرتضَى ، فيتمّ هذا الأسلوب البديع المحكمُ الانتظامِ .

وأشارت هاته الآية إلى أمر عجيب كان من أسباب خِذلان المشركين إذ صرف الله عن المسلمين كيداً لهم حين وسوس الشيطان لسراقَةَ بننِ مالك بن جعْشُم الكناني أن يجيء في جيش من قومه بني كنانة لنصر المشركين حين خرجوا للدفاع عن عِيرهم ، فألقى الله في رُوع سراقة من الخوف ، ما أوجب انخزاله وجيشه عن نصر المشركين ، وأفسد الله كيد الشيطان بما قذفه الله في نفس سُراقة من الخوف وذلك أنّ قريشاً لمّا أجمعوا أمرهم على السير إلى إنقاذ العِير ذكروا ما كان بينهم وبين كنانة من الحرب فكاد أن يثبّطهم عن الخروج ، فلقيهم في مسيرهم سُراقة بن مالك في جند معه راية وقال لهم : لا غالب لكم اليوم ، وإنّي مجيركم من كنانة ، فقوي عزم قريش على المسير ، فلمّا أمعنوا السير وتقارَبَ المشركون من منازل جيش المسلمين ، ورأى سُراقة الجيشين ، نكص سُراقة بمن معه وانطلقوا ، فقال له الحارث بن هشام ، أخُو أبي جهل : « إلى أينَ أتخذلنا في هذه الحال » فقال سراقة « إني أرى ما لا ترون » فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير ، حتّى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر ، وكان خروج سُراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان ، لئلا ينثني قريش عن الخروج ، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتمّ نصر المسلمين ، وكان خاطر رجوع سراقة خاطراً ملَكياً ساقه الله إليه ؛ لأنّ سراقة لم يزل يتردّد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة ، حين شاهد معجزة سَوْخ قوائم فرسه في الأرض ، وأخذِه الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة ، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح .

وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم ، يجوز أن يكون إسناداً مجازياً ، وإنّما المزيّن لهم سُراقة بإغراء الشيطان ، بما سوّل إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم ، وأن لا يخشوا غَدْر كنانة بهم ، وقيل تمثّل الشّيطان للمشركين في صورة سراقة ، وليس تمثّل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما روي ذلك عن قول ابن عبّاس ، وتأويلُ ذلك : أنّ ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان ، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنّه فعل فعل الشيطان كما يقولون : فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسناداً حقيقاً أي زيّن لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته ، وكذلك إسناد قوله : { لا غالب لكم } إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سُراقة المتأثر بوسوسة الشيطان .

وكذلك قوله : { إني أرى ما لا ترون } .

وقوله : { إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه ، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنّهم يسمعونه ، فقال قوله هذا ، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضرّوه بإذن الله وقوله : { إني أخاف الله } بيان لقوله : { إني أرى ما لا ترون } أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله . وإن كان ذلك كلّه من قول سراقة فهو إعلان لهم بردّ جواره إيّاهم لئلا يكون خائناً لهم ، لأنّ العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه ، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم ردّ جواره من أبي بكر ، ومنه قوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآءٍ إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] فالمعنى : إنّي بريء من جواركم ، ولذلك قال له الحارث بن هشام : « إلى أين أتخذلنا » فيكون قد اقتصر على تأمينهم من غدر قومه بني كنانة . وتكون الرؤية علمية ومفعولها الثاني محذوفاً اقتصاراً .

وأمّا قوله : { إني أخاف الله والله شديد العقاب } فعلى احتمال أن يكون الإسناد إلى الشيطان حقيقة فالمراد من خوف الله توقع أن يصيبه الله بضرّ ، من نحوِ الرجم بالشهب ، وإن كان مجازاً عقلياً وأنّ حقيقته قول سُراقة فلعلّ سراقة قال قولاً في نفسه ، لأنّه كان عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يدلّ عليه المشركين ، فلعلّه تذكّر ذلك ورأى أنّ فيما وعد المشركين من الإعانة ضرباً من خيانة العهد فخاف سوء عاقبة الخيانة .

و« التزيين » إظهار الشيء زيْناً ، أي حسناٍ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } في سورة [ الأنعام : 108 ] ، وفي قوله : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } في سورة [ البقرة : 212 ] . والمعنى : أنّه أراهم حسناً ما يعملونه من الخروج إلى إنقاذ العير ، ثم من إزماع السير إلى بدر .

و{ تراءت } مفاعلة من الرؤية ، أي رأت كلتا الفئتين الأخرى .

و { نكص على عقبيه } رجع من حيث جاء . وعن مؤرج السدوسي : أنّ نكص رجع بلغة سُليم ، ومصدره النكوص وهو من باب رجع .

وقوله : { على عقبيه } مؤكّد لمعنى نكص إذ النكوص لا يكون إلاّ على العقبين ، لأنّه الرجوع إلى الوراء كقولهم : رجع القهقرى ، ونظيره قوله تعالى في سورة [ المؤمنين : 66 ] : { فكنتم على أعقابكم تنكصون }

و { على } مفيدة للتمكّن من السير بالعقبين . والعقبان : تثنية العقب ، وهو مؤخّر الرجل ، وقد تقدّم في قوله : { ونرد على أعقابنا } في سورة [ الأنعام : 71 ] .

والمقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر لأنّ عقب الرجل أخسّ القوائم لملاقاته الغبار والأوساخ .