ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان بالله ورسله{[993]} يدخل فيه أصول الدين وفروعها ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم{[994]} من أعظم منته على عباده وفضله . { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الذي لا يحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده{[995]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ووَكِيع ، كلاهما عن الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله ، والنار مثل ذلك " .
انفرد بإخراجه البخاري في " الرقاق " ، من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به{[28298]}
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فلهذا حثه الله{[28299]} على المبادرة إلى الخيرات ، من فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، التي تكفر عنه الذنوب والزلات ، وتحصل له الثواب والدرجات ، فقال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ }
والمراد جنس السماء والأرض ، كما قال في الآية الأخرى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] . وقال هاهنا : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي : هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم ، كما قدَّمنا في الصحيح : أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . قال : " وما ذاك ؟ " . قالوا : يُصلُّون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويُعتقون ولا نُعْتِق . قال : " أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم : تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين " . قال : فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ، ففعلوا مثله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " {[28300]}
سابقوا سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة من ربكم إلى موجباتها وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أي عرضها كعرضهما وإن كان العرض كذلك فما ظنك بالطول وقيل المراد به البسطة كقوله فذو دعاء عريض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب والله ذو الفضل العظيم منه التفضل بذلك وإن عظم قدره .
لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة ، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة ، وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات ، وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل ، لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة ، وقد ذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال ، فقال قوم من العلماء منهم ابن مسعود : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } معناه : كونوا في أول صف في القتال . وقال آخرون ، منهم أنس بن مالك معناه : اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام ، وقال آخرون منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كن أول داخل في المسجد ، وآخر خارج منه ، وهذا كله على جهة المثال . وذكر العرض من الجنة ، إذ المعهود أنه أقل من الطول ، وقال قوم من أهل المعاني : عبر عن الساحة بالعرض ولم يقصد أن طولها أقل ولا أكثر . وقد ورد في الحديث : «إن سقف الجنة العرش » . وورد في الحديث : «إن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة ، وإن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة »{[10985]} .
وقوله تعالى : { أعدت } ظاهرة أنها مخلوقة الآن معدة ، ونص عليه الحسن في كتاب النقاش .
فذلكة لما تقدم من قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم } [ الحديد : 12 ] إلى هنا فذلك مسوق مساق الترغيب فيما به تحصيل نعيم الآخرة والتحذير من فواته وما يصرف عنه من إيثار زينة الدنيا ، ولذلك فُصلت الجملة ولم تُعطف ، واقتُصر في الفذلكة على الجانب المقصود ترغيبه دون التعرض إلى المحذر منه لأنه المقصود .
وعبر عن العناية والاهتمام بفعل السابقة لإِلهاب النفوس بصرف العناية بأقصى ما يمكن من الفضائل كفعل من يسابق غيره إلى غاية فهو يحرص على أن يكون المجلِّي ، ولأن المسابقة كناية عن المنافسة ، أي واتركوا المقتصرين على متاع الحياة الدنيا في الآخريات والخوالف .
وتنكير { مغفرة } لقصد تعظيمها ولتكون الجملة مستقلة بنفسها ، وإلا فإن المغفرة سبق ذكرها في قوله : { ومغفرة من الله } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : سابقوا إلى المغفرة ، أي أكثروا من أسبابها ووسائلها : فالمسابقة إلى المغفرة هي المسابقة في تحصيل أسبابها .
والعَرْض : مستعمل في السعة وليس مقابل الطُور لظهور أنه لا طائل في معنى ما يقابل الطول ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] ، وقول العُديل لما فَرَّ من وعيد الحجاج :
ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عَريض
وتشبيه عَرْض الجنة بعَرْض السماء والأرض ، أي مجموع عرضيهما لقصد تقريب المشبه بأقصى ما يتصوره الناس في الاتساع ، وليس المراد تحديد ذلك العرض ولا أن الجنة في السماء حتى يقال : فماذا بقي لمكان جهنم .
وهذا الأمر شامل لجميع المسابقات إلى أفعال البر الموجبة للمغفرة ونعيم الجنة ، وشامل للمسابقة الحقيقية مع المجازية على طريقة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهي طريقة شائعة في القرآن إكثاراً للمعاني ، ومنه الحديث : « لو يعلم الناس ما في الصف الأول لاستبقوا إليه أو استهموا إليه »
وليس في الآية دليل على أن الجنة غير مخلوقة الآن إذ وجه الشبه في قوله : { كعرض السماء والأرض } هو السعة لا المقدار ولا على أن الجنة في السماء الموجودة اليوم ولا عدمه ، وتقدم من معنى هذه الآية قوله : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } الآية في سورة [ آل عمران : 133 ] .
وظاهر قوله : أعدت } أن الله خلقها وأعدّها لأن ظاهر استعماله الفعل في الزمان الماضي إن حصل مصدره فيه ، فقد تمسك بهذا الظاهر الذين قالوا : إن الجنة مخلوقة الآن ، وأما الذين نفوا ذلك فاستندوا إلى ظواهر أخرى وتقدم ذلك في سورة آل عمران .
وعُلم من قوله : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } أن غيرهم لاحظَ لهم في الجنة لأن معنى اعداد شيء لشيء قصره عليه .
وجَمْع الرسل هنا يشمل كل أمة آمنوا بالله وبرسولهم الذي أرسله الله إليهم ، وليس يلزمها أن تؤمن برسول أرسل إلى أمة أخرى ولم يَدْع غيرها إلى الإِيمان به .
والإِشارة في { ذلك فضل الله } إلى المذكور من المغفرة والجنة .