اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (21)

قوله تعالى : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } الآية .

أي : سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم .

وقيل : سارعوا بالتَّوبةِ ؛ لأنها تؤدِّي إلى المغفرة . قاله الكلبي{[55418]} .

وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام .

وقيل : الصف الأول .

فصل فيمن استدل بالآية على أن الأمر على الفور{[55419]}

احتج القائلون بأن الأمر على الفور بهذه الآية ؛ لأنها دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظوراً{[55420]} .

قوله : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } .

{ عَرْضُهَا كَعَرْضِ } : مبتدأ وخبر ، والجملة صفة ، وكذلك «أعِدَّتْ » ، ويجوز أن تكون «أعدت » مستأنفة{[55421]} .

فصل في عرض الجنة

قال مقاتل : إنَّ السماوات السَّبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح ، وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنَّات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله{[55422]} ؛ قال : [ الطويل ]

كَأنَّ بِلادَ اللَّهِ وهْيَ عرِيضةٌ *** على الخَائفِ المطلُوبِ كفَّةُ حَابِلِ{[55423]}

وقال عطاء عن ابن عباس : يريد أنَّ لكل واحد من المطيعين جنَّة بهذه الصِّفة{[55424]} .

وقال السُّدي : إنه - تعالى - شبّه عرض الجنة بعرض السماوات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طوله أزيد من عرضه{[55425]} .

وقيل : هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السماوات والأرض .

قاله الزجاج{[55426]} ، وهو اختيار ابن عبَّاس{[55427]} .

وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل «الحيرة » لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله عز وجل : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } فأيْنَ النَّارُ ؟ قال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولَّى وجاء النهار ، فأين يكون الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله{[55428]} .

قوله : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } شرط الإيمان لا غير ، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطَّاعات ، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء ، فإنه باقٍ على مفهومه الأصلي وهو التصديق ، فالآية حجة عليهم ، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء ، سواء أطاع أم عصى .

فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العُصاة ، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم ؟ فالجواب{[55429]} : قلنا : نقطع بحصول الجنَّة ، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم ؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة ، ثم نقلوا إلى الجنة ، وبقوا فيها أبد الآباد ، فقد كانت الجنَّة معدة لهم .

فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله ، فوجب ألاّ يدخل تحت هذه الآية .

قلنا : فالجواب خص من العموم ، فبقي العموم حجة فيما عداه .

فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا ؟{[55430]}

احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة .

قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين :

الأول : أن قوله تعالى { أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .

الثاني : أن المخلوقة الآن في السماء السَّابعة ، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السماوات والأرض ، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بُدَّ من التأويل ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنه - تعالى - لما كان قادراً لا يصحّ المنع عليه ، وإذا كان حكيماً لا يصحّ الخلف في وعده ، ثم إنه - تعالى - وعد على الطَّاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع ، كما يقول المرء لصاحبه : أعددت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها .

والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم ، كقوله : { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة } [ الأعراف : 50 ] أي : إذا كان يوم القيامة نادى .

والجواب : أن قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [ القصص : 88 ] عام .

وقوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } مع قوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } [ الرعد : 35 ] خاص ، والخاصّ مقدّم على العام .

وأما قولهم : إنَّ الجنَّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال - عليه الصلاة والسلام - في صفة الجنة : «سَقْفُهَا عرْشُ الرَّحْمانِ » فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ، أليس أن العرش أعظم المخلوقات ، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة{[55431]} .

قوله : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } أي : أن الجنة لا تنال إلاَّ بفضل الله ورحمته{[55432]} ، { والله ذُو الفضل العظيم } .


[55418]:ينظر: القرطبي 17/166.
[55419]:ينظر اللمع ص 8 البرهان 1/231 -241 المحصول 1/2/189 المستصفى 2/9 التبصرة ص 52 المسودة ص 24 إرشاد الفحول ص 59 أصول السرخسي 1/26 المعتمد 1/120 جمع الجوامع 1/381 المنخول ص 111 المنتهى لابن الحاجب ص 68 الإبهاج 2/57 روضة الناظر (105) تيسير التحرير 1/356 فواتح الرحموت 1/381 التمهيد للإسنوي ص 80 الأحكام للآمدي 2/153 نهاية السول 2/287 شرح التنقيح ص 128 العدة لأبي يعلى 1/281 القواعد والفوائد الأصولية ص 189 التلويح على التوضيح 2/188- 189 شرح العضد 2/83 المدخل ص 102 -103 مختصر البعلى ص (101).
[55420]:ينظر: تفسير الرازي 29/204.
[55421]:ينظر: الدر المصون 6/279.
[55422]:ذكره الرازي في "تفسيره" (29/204).
[55423]:يروى الشطر الأول من البيت: كأن فجاج الأرض وهي عريضة *** ....................... ينظر: اللسان (كفف) والقرطبي 17/166.
[55424]:ينظر: المصدر السابق.
[55425]:ينظر: المصدر السابق.
[55426]:ينظر: معاني القرآن له 5/128.
[55427]:ينظر: الفخر الرازي 29/205.
[55428]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/166).
[55429]:ينظر: الفخر الرازي 29/205.
[55430]:ينظر: المصدر السابق.
[55431]:ينظر: الفخر الرازي 29/205.
[55432]:القرطبي 17/166.