السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (21)

ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال ، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى :

{ سابقوا } أي : سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار { إلى مغفرة } أي : ستر لذنوبكم عيناً وأثراً { من ربكم } أي : المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، وقال الكلبي : سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة ، وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام ، وقيل : الصف الأول { وجنة } أي : وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله { عرضها كعرض السماء والأرض } أي : السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة ، وقال مقاتل : إنّ السماوات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان ، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار ؟ فقال لهم : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنه لمثلهما في التوراة . ومعناه : أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك ، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السماوات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس { أعدت } أي : هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر { للذين آمنوا } أي : أوقعوا هذه الحقيقة { بالله } أي : الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان { ورسله } فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر ، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية { ذلك } أي : الفضل العظيم جداً { فضل الله } أي : الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه { يؤتيه من يشاء } فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله ، لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة » . ولا ينافي ذلك قوله تعالى : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } [ النحل : 32 ] لأنّ الباء في الحديث عوضيه ، وفي الآية سببية ، فإن قيل : يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم ؟ أجيب : بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم { والله } أي : والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله { ذو الفضل العظيم } أي : الذي جل أن تحيط بوصفه العقول .