نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ} (21)

ولما بين أن الدنيا خيال ومحال ليصرف الكملة من العباد عنها لسفولها وحقارتها ، وأن الآخرة بقاء وكمال ليرغبوا غاية الرغبة فيها وليشتاقوا كل{[62575]} الاشتياق لكمالها وشرفها وجلالها ، أنتج ذلك قوله تعالى : { سابقوا } أي افعلوا في السعي{[62576]} لها بالأعمال الصالحة حق السعي فعل من يسابق شخصاً فهو يسعى ويجتهد غاية الاجتهاد في سبقه ، ولكن ربما كان قرينه بطيئاً فسار هويناً ، وأما المسارعة فلا تكون إلا بجهد النفس من الجانبين مع السرعة في العرف ، فآية آل عمران الآمرة بالمسارعة الأخص من المسابقة{[62577]} أبلغ لأنها للحث على التجرد عن النفس والمال وجميع الحظوظ أصلاً ورأساً ، ولذلك كانت جنتها للمتقين الموصوفين . وأما هذه ففي سياق التصديق الذي هو تجرد عن فضول الأموال ولذلك كانت جنته{[62578]} للذين آمنوا .

ولما كان المقام عظيماً ، والإنسان - وإن بذل الجهد - ضعيفاً ، لا يسعه إلا العفو سواء كان سابقاً أو لاحقاً من الأبرار والمقربين ، نبه على ذلك بقوله في السابقين ؛ { إلى مغفرة } أي ستر{[62579]} لذنوبكم عيناً وأثراً { من ربكم } أي المحسن إليكم بأن رباكم وطوركم بعد الإيجاد بأنواع الأسباب بأن تفعلوا أسباب ذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب زواجره . ولما كان المقصود من المغفرة ما يترتب عليها من نتيجتها قال : { وجنة } أي وبستان هو من عظم أشجارها واطراد أنهارها بحيث يستر داخله . ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالسعة قال : { عرضها } أي فما ظنك بطولها . ولما كان السياق كما بين للتجرد عن فضول الأموال فقط لأن الموعود به دون ما في آل عمران فأفرده وصرح بالعرض فقال : { كعرض السماء والأرض } أي لو وصل بعضها ببعض ، فآية آل عمران تحتمل الطول وجميع السماوات والأرض على هيئتها ، ويحتمل أن يكون ذلك على تقدير أن تقد{[62580]} كل واحدة منهما ويوصل رأس{[62581]} كل قدة برأس الأخرى ، وتمتد جميع القدات إلى نهايتها على مثل الشراك ، وهذه الآية ظاهرها{[62582]} عرض واحد وأرض واحدة { أعدت } أي هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر { للذين آمنوا } أي أوقعوا هذه الحقيقة وهم من هذه الأمة إيقاعاً لا ريب معه ولو أنه على أدنى الوجوه فكانوا من السابقين ، وهذا يدل على أن الجنة موجودة الآن في آيات كثيرة ، وأن الإيمان كاف في استحقاقها ، وأحاديث الشفاعة مؤيدة لذلك { بالله } أي الذي له جميع العظمة لأجل ذاته{[62583]} مخلصين له بالإيمان { ورسله } فلم يفرقوا بين أحد منهم ، فهذه الجنة غير مذكورة في آل عمران ، وإن قيل : إن السماء هنا للجنس لكون السياق فيه الصديقون والشهداء كانت أبلغته تلك بالتصريح بالجمع وعدم التصريح بالعرض لكونها في سياق صرح فيه بالجهاد ، وقد جرت السنة الإلهية بإعظام المواعيد للمجاهدين لشدة الخطر في أمر النفس وصعوبة الخروج عنها وعن جميع المألوفات .

ولما كان من ذكر من الوعد بالمغفرة والجنة عظيماً لا سيما لمن آمن ولو كان إيمانه على أعلى الدرجات ومع{[62584]} التجرد من جميع الأعمال ، عظمه بقوله رداً على من يوجب عليه سبحانه شيئاً من ثواب أو عقاب : { ذلك } أي الأمر العظيم جداً { فضل الله } أي الملك الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه { يؤتيه من يشاء } ولعل التعبير بالمضارع للإشارة إلى هذا خاص بهذه الأمة التي هي أقل عملاً وأكثر أجراً ، فإذا حسدهم أهل الكتاب قال تعالى : هل{[62585]} ظلمتكم من أمركم شيئاً ، فإذا قالوا : لا ، لأن المصروف من الأجر لجميع الطوائف على حسب الشرط ، قال : ذلك فضلي أوتيه من أشاء . { والله } أي والحال أن الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله { ذو الفضل العظيم * } أي الذي جل عن أن يحيط بوصفه العقول .


[62575]:- من ظ، وفي الأصل: عاته..
[62576]:- من ظ، وفي الأصل: بالسعي.
[62577]:- من ظ، وفي الأصل: المسافة.
[62578]:- زيد من ظ.
[62579]:- من ظ، وفي الأصل: ساتر.
[62580]:- من ظ، وفي الأصل: تقدير.
[62581]:- زيد من ظ.
[62582]:- من ظ، وفي الأصل: ظاهره.
[62583]:- من ظ وفي الأصل: وأنه.
[62584]:- من ظ، وفي الأصل: من.
[62585]:- زيد من ظ.