فلا يستوي المؤمن والكافر ، ولا المهتدي والضال ، ولا العالم والجاهل ، ولا أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ولا أحياء القلوب وأمواتها ، فبين هذه الأشياء من التفاوت والفرق ما لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، فإذا علمت المراتب ، وميزت الأشياء ، وبان الذي ينبغي أن يتنافس في تحصيله من ضده ، فليختر الحازم لنفسه ، ما هو أولى به وأحقها بالإيثار .
{ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } سماع فهم وقبول ، لأنه تعالى هو الهادي الموفق { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : أموات القلوب ، أو كما أن دعاءك لا يفيد سكان القبور شيئا ، كذلك لا يفيد المعرض المعاند شيئا ، ولكن وظيفتك النذارة ، وإبلاغ ما أرسلت به ، قبل منك أم لا .
يقول تعالى : كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة ، كالأعمى والبصير لا يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات ، وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين وهم الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } [ هود : 24 ] فالمؤمن سميع بصير في نور يمشي ، على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة ، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ، والكافر أعمى أصم ، في ظلمات يمشي ، لا خروج له منها ، بل هو يتيه في غَيِّه وضلاله في الدنيا والآخرة ، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم ، { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [ الواقعة : 43 ، 44 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ } أي : يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : كما لا [ يسمع و ]{[24513]} ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم ، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها ، كذلك هؤلاء المشركون الذين كُتِب عليهم الشقاوة لا حيلةَ لك فيهم ، ولا تستطيع هدايتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ * وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ } . يقول تعالى ذكره : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والبَصِيرُ الذي قد أبصر فيه رشده ، فاتبع محمدا وصدّقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به وَلا الظّلُماتُ يقول : وما تستوي ظلمات الكفر ، ونور الإيمان وَلا الظّلّ قيل : ولا الجنة وَلا الحَرُورُ قيل : النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار والحَرُور بمنزلة السّموم ، وهي الرياح الحارّة . وذكر أبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى ، عن رُؤْبة بن العَجّاج ، أنه كان يقول : الحَرور بالليل ، والسموم بالنهار . وأما أبو عبيدة فإنه قال : الحَرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس . وأما الفراء فإنه كان يقول : الحَرُور يكون بالليل والنهار ، والسّموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار .
والقول في ذلك عندي ، أن الحَرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما قال أبو عبيدة : أشبه مع الشمس ، لأن الظلّ إنما يكون في يوم شمس ، فذلك يدلّ على أنه أريد بالحَرور : الذي يوجد في حال وجود الظلّ .
وقوله : وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ يقول : وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال وكلّ هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان ، والكافر والكفر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ . . . الاَية ، قال : هو مَثَل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية . يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ، ولا الأموات ، فهو مَثَل أهل المعصية . ولا يستوي البصير ولا النور ، ولا الظلّ والأحياء ، فهو مثل أهل الطاعة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى . . . الاَية خلقا ، فضل بعضه على بعض فأما المؤمن فعبد حيّ الأثر ، حيّ البصر ، حيّ النية ، حيّ العمل . وأما الكافر فعبد ميت ، ميت البصر ، ميت القلب ، ميت العمل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الأحْياءُ وَلا الأمْوَاتُ قال : هذا مثل ضربه الله فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظلّ ولا الحَرور ، ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ، ولا هذا الأعمى ، وقرأ : أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ قال : الهُدى الذي هداه الله به ونوّر له . هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى ، فجعل المؤمن حيا ، وجعل الكافر ميتا ، ميت القلب أوَ مَنْ كانَ مَيْتا فأَحْيَيْناهُ قال : هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب ، وهو في الظلمات ، أهذا وهذا سواء ؟
واختلف أهل العربية في وجه دخول «لا » مع حرف العطف في قوله : وَلا الظّلُماتُ وَلا النّورُ وَلا الظّلّ وَلا الحَرُورُ فقال بعض نحويّي البصرة : قال : ولا الظلّ ولا الحَرور ، فيشبه أن تكون «لا » زائدة ، لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلاّ أن تكون «لا » زائدة وكان غيره يقول : إذا لم تدخل «لا » مع الواو ، فإنما لم تدخل اكتفاء بدخولها في أوّل الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه ، فكان معنى الكلام إذا أعيدت «لا » مع الواو عند صاحب هذا القول : لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ، فكلّ واحد منهما لا يساوي صاحبه .
وقوله : إنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ يقول تعالى ذكره : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله ، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله ، وبيان حُججه ، من كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ كذلك الكافر لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع .
{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات }
وجملة { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل { يستوي } لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات ، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت ، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد ( 16 ) : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } . فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعاً للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه ، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهاً بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان ، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام ( 122 ) { أو من كان ميّتاً فأحييناه } وكان الكافر شبيهاً بالميت ما دام على كفره .
واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما ، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح ، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين .
{ إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور }
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهاً به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] ، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه { الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [ الزمر : 18 ] ، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين ، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين ، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له : إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم ، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات ، فجاء قوله : { إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } على مقابلة قوله : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب .
جملة { إن الله يسمع من يشاء } تعليل لجملة { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] ، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيداً فريقين : فريقاً انتفع بالإِنذار ، وفريقاً لم ينتفع ، فعلل ذلك ب { إن الله يسمع من يشاء } .
وقوله : { وما أنت بمسمع من في القبور } إشارة إلى الذين لم يشأ الله أن يسمعهم إنذارك .
واستعير { من في القبور } للذين لم تنفع فيهم النذر ، وعبر عن الأموات ب { من في القبور } لأن من في القبور أعرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض . فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإِيجاز بأن يقال : وما أنت بمسمع الموتى .
وجيء بصيغة الجمع { الأحياء } و { الأموات } تفنناً في الكلام بعد أن أورد الأعمى والبصير بالإِفراد لأن المفرد والجمع في المعرف بلام الجنس سواء إذا كان اسماً له أفراد بخلاف النور والظل والحرور ، وأما جمع { الظلمات } فقد علمت وجهه آنفاً .