37- واذكر إذ تقول لزيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه بهداية الإسلام ، وأنعمت عليه بالتربية والعتق ، أمسك عليك زوجك - زينب بنت جحش - واتق الله فيها ، واصبر على معاشرتها ، وتخفي في نفسك ما الله مظهره من أنه سيطلقها وأنك ستتزوجها ، وتخاف أن يُعيِّرك الناس ، والله هو الجدير بأن تخافه ، ولو كان في ذلك مشقة عليك . فلما قضى زيد منها حاجته وطلقها تخلصاً من ضيق الحياة معها زوجناكها . لتكون قدوة في إبطال هذه العادة المرذولة ، ولا يتحرج المسلمين بعد ذلك من التزوج بزوجات من كانوا يتبنونهم بعد طلاقهن . وكان أمر الله الذي يريده واقعاً لا محالة .
قوله تعالى{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } الآية ، نزلت في زينب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار ، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ، ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : ما لك أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً ، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجتك " { واتق الله } في أمرها ثم طلقها زيد ، فذلك قوله عز وجل : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، { وأنعمت عليه } بالتربية والإعتاق ، وهو زيد بن حارثة : { أمسك عليك زوجك } يعني : زينب بنت جحش واتق الله فيها ولا تفارقها ، { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أي : تسر في نفسك ما الله مظهره ، أي : كان في قلبه لو فارقها لتزوجها . وقال ابن عباس : حبها . وقال قتادة : ود أنه طلقها . { وتخشى الناس } قال ابن عباس والحسن : تستحييهم . وقيل : تخاف لائمة الناس أن يقولوا : أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها . { والله أحق أن تخشاه } قال ابن عمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية . وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } . وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } قلت : يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك ، فقال : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) ، فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ، بل كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : أمسك عليك زوجك ، فعاتبه الله وقال : لم قلت : أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك ؟ . وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لأظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له ، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : التي تحتك وفي نكاحك ستكون زوجتي ، وهذا قول حسن مرضي وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها و نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء ، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم ، لأن الود وميل النفس من طبع الشر . وقوله : { أمسك عليك زوجك واتق الله } أمر بالمعروف ، وهو حسن لا إثم فيه . قوله تعالى : { والله أحق أن تخشاه } لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال : " أنا أخشاكم لله وأتقاكم له " ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء . قوله عز وجل : { فلما قضى زيد منها وطراً } أي : حاجة من نكاحها ، { زوجناكها } وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها . قال أنس : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن زوجني الله من فوق سبع سموات . وقال الشعبي : كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، إني أنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام .
أخبرنا إسماعيل ابن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن حاتم بن حاتم بن ميمون ، أنبأنا بهز ، أنبأنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد : فاذكرها علي ، قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت : يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن . قال : ولقد رأيتنا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم ، حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن ، ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك ؟ قال : فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني . قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا سليمان بن حرب ، أنبأنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس قال : " ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة " .
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا محمد بن هشام بن ملاس النمري ، أنبأنا مروان الفزاري ، أنبأنا حميد عن أنس قال : " أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً " . قوله عز وجل : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج } إثم { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً } والأدعياء : جمع الدعي ، وهو المتبني ، يقول : زوجناك زينب ، وهي امرأة زيد الذي تبنيته ، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى ، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب . { وكان أمر الله مفعولاً } أي : كان قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ 37 ْ } { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ }
وكان سبب نزول هذه الآيات ، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعًا عامًا للمؤمنين ، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة ، من جميع الوجوه وأن أزواجهم ، لا جناح على من تبناهم ، في نكاحهن .
وكان هذا من الأمور المعتادة ، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير ، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله ، وفعلاً ، وإذا أراد اللّه أمرًا ، جعل له سببًا ، وكان زيد بن حارثة يدعى " زيد بن محمد " قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فصار يدعى إليه حتى نزل { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ْ } فقيل له : " زيد بن حارثة " .
وكانت تحته ، زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكان قد وقع في قلب الرسول ، لو طلقها زيد ، لتزوَّجها ، فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد ، ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها .
قال اللّه : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ْ } أي : بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ْ } بالعتق{[1]} حين جاءك مشاورًا في فراقها : فقلت له ناصحًا له ومخبرًا بمصلحته{[2]} مع وقوعها في قلبك : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ْ } أي : لا تفارقها ، واصبر على ما جاءك منها ، { وَاتَّقِ اللَّهَ ْ } تعالى في أمورك عامة ، وفي أمر زوجك خاصة ، فإن التقوى ، تحث على الصبر ، وتأمر به .
{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ْ } والذي أخفاه ، أنه لو طلقها زيد ، لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم .
{ وَتَخْشَى النَّاسَ ْ } في عدم إبداء ما في نفسك { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ْ }{[3]} وأن لا تباليهم شيئًا ، { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ْ } أي : طابت نفسه ، ورغب عنها ، وفارقها . { زَوَّجْنَاكَهَا ْ } وإنما فعلنا ذلك ، لفائدة عظيمة ، وهي : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } حيث رأوك تزوجت ، زوج زيد بن حارثة ، الذي كان من قبل ، ينتسب إليك .
ولما كان قوله : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ْ } عامًا في جميع الأحوال ، وكان من الأحوال ، ما لا يجوز ذلك ، وهي قبل انقضاء وطره منها ، قيد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ْ } أي : لا بد من فعله ، ولا عائق له ولا مانع .
وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة ، فوائد ، منها : الثناء على زيد بن حارثة ، وذلك من وجهين :
أحدهما : أن اللّه سماه في القرآن ، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره .
والثاني : أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه ، أي : بنعمة الإسلام والإيمان . وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن ، ظاهرًا وباطنًا ، وإلا ، فلا وجه لتخصيصه بالنعمة ، لولا أن المراد بها ، النعمة الخاصة .
ومنها : أن المُعْتَق في نعمة الْمُعْتِق .
ومنها : جواز تزوج زوجة الدَّعِيّ ، كما صرح به .
ومنها : أن التعليم الفعلي ، أبلغ من القولي ، خصوصا ، إذا اقترن بالقول ، فإن ذلك ، نور على نور .
ومنها : أن المحبة التي في قلب العبد ، لغير زوجته ومملوكته ، ومحارمه ، إذا لم يقترن بها محذور ، لا يأثم عليها العبد ، ولو اقترن بذلك أمنيته ، أن لو طلقها زوجها ، لتزوجها من غير أن يسعى في فرقة بينهما ، أو يتسبب بأي سبب كان ، لأن اللّه أخبر أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أخفى ذلك في نفسه .
ومنها : أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، قد بلغ البلاغ المبين ، فلم يدع شيئًا مما أوحي إليه ، إلا وبلغه ، حتى هذا الأمر ، الذي فيه عتابه .
وهذا يدل ، على أنه رسول اللّه ، ولا يقول إلا ما أوحي إليه ، ولا يريد تعظيم نفسه .
ومنها : أن المستشار مؤتمن ، يجب عليه -إذا استشير في أمر من الأمور- أن يشير بما يعلمه أصلح للمستشير{[4]} ولو كان له حظ نفس ، فتقدم مصلحة المستشير على هوى نفسه وغرضه .
ومنها : أن من الرأي : الحسن لمن استشار في فراق زوجته أن يؤمر بإمساكها مهما أمكن صلاح الحال ، فهو أحسن من الفرقة .
ومنها : [ أنه يتعين ]{[5]} أن يقدم العبد خشية اللّه ، على خشية الناس ، وأنها أحق منها وأولى .
ومنها : فضيلة زينب رضي اللّه عنها أم المؤمنين ، حيث تولى اللّه تزويجها ، من رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، من دون خطبة ولا شهود ، ولهذا كانت تفتخر بذلك على أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتقول زوجكن أهاليكن ، وزوجني اللّه من فوق سبع سماوات .
ومنها : أن المرأة ، إذا كانت ذات زوج ، لا يجوز نكاحها ، ولا السعي فيه وفي أسبابه ، حتى يقضي زوجها وطره منها ، ولا يقضي وطره ، حتى تنقضي عدتها ، لأنها قبل انقضاء عدتها ، هي في عصمته ، أو في حقه الذي له وطر إليها ، ولو من بعض الوجوه .
ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له . سنة الله في الذين خلوا من قبل . وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله . وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليما . .
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ، وكان الله غفورا رحيما . . . .
ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته . فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس . ولا بد من سوابق عملية مضادة . ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين .
وقد مضى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زوج زيد بن حارثة - الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه - من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي .
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة . ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها !
وألهم الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها . وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا .
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اضطراب حياته مع زينب ؛ وعدم استطاعته المضي معها . والرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية - يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد [ الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء . والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب ] . . يقول له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . . ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس . كما قال الله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ! ) . . وهذا الذي أخفاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به . حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه في النهاية . وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد . لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له . حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها . ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء . إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة . بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار .
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات !
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) . . وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية . حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد !
( وكان أمر الله مفعولا ) . . لا مرد له ، ولا مفر منه . واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه . وكان زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد انقضاء عدتها . أرسل إليها زيدا زوجها السابق . وأحب خلق الله إليه . أرسله إليها ليخطبها عليه .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما انقضت عدة زينب - رضي الله عنها - قال رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن حارثة . " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذكرها ! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب . أبشري . أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها . ونزل القرآن . وجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير إذن . . .
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات .
ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه !
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بتوفيقه لعتقه واختصاصه . { وأنعمت عليه } بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة . { أمسك عليك زوجك } زينب . وذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال ما لك أرابك منها شيء ، فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها لشرفها تتعظم علي ، فقال له : امسك عليك زوجك . { واتق الله } في أمرها فلا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها . { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } وهو نكاحها أن طلقها أو إرادة طلاقها . { وتخشى الناس } تعييرهم إياك به . { والله أحق أن تخشاه } أن كان في ما يخشى ، والواو للحال ، وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره ، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه . { فلما قضى زيد منها وطرا } حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها . { زوجناكها } وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك . وقرئ " زوجتكها " ، والمعنى انه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد . ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن . وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه . { لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحدة إلا ما خصه الدليل { وكان أمر الله } أمره الذي يريده { مفعولا } مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب .
{ وَإِذْ تَقُولُ للذى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أن تَخْشَاهُ } .
و { إذ } اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره : اذْكُر ، وله نظائر كثيرة . وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكُّر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك ولكنه ذَكَّر رسوله صلى الله عليه وسلم ليُرتب عليه قوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } . والمقصود بهذا الاعتبارُ بتقدير الله تعالى الأسبابَ لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه ، ولذلك قال عقبه : { فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها } إلى قوله : { وكان أمر اللَّه مفعولاً } وقوله : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } [ الأحزاب : 38 ] .
وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبنّي ودحض ما بناه المنافقون على أساسِه الباطِل بناءً على كفر المنافقين الذين غَمزوا مغامز في قضية تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة فقالوا : تزوج حليلة ابنه وقد نهَى عن تزوج حلائل الأبناء . ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله : { هو الذي يصلي عليكم } [ الأحزاب : 43 ] الآية . وبالإِعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم .
وزيد هو المعنيُّ من قوله تعالى : { للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } ، فالله أنعم عليه بالإِيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسَّر دخولَه في ملك رسوله صلى الله عليه وسلم والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبنّي والمحبة ، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله : { فلما قضى زيد منها وطراً } وهو زيد بن حارثة بن شُراحيل الكلبي من كَلْب بن وَبَرة وبنو كلب من تغلب . كانت خيل من بني القين بن جَسْر أغاروا على أبيات من بني مَعن من طيء ، وكانت أم زيد وهي سعدى بنت ثعلبة من بني مَعْن خرجت به إلى قومها تَزورهم فسبقته الخيل المُغيرة وباعوه في سوق حُباشة ( بضم الحاء المهملة ) بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حِزام لعمته خديجةَ بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( وزيد يومئذٍ ابن ثمان سنين ) وذلك قبل البعثة ، فحج ناس من كلب فرأوا زيداً بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند مَن هو ، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكَلَّمَا النبي صلى الله عليه وسلم في فدائه ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم إليهما فعرفهما ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : « اخترني أو اخترهما » . قال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحداً ، فانصرف أبوه وعمّه وطابت أنفسهما ببقائه ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحِجر وقال : « يا من حضَرَ اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه » فصار ابناً للنبيء صلى الله عليه وسلم على حكم التبني في الجاهلية وكان يُدعى : زيد بنَ محمد .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّجه أمَّ أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجه زينب بنت جَحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أُميمة بنت عبد المطلب ، وهو يومئذٍ بمكة . ثم بعد الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبنّي بقوله تعالى : { وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم } [ الأحزاب : 4 ] صار يُدْعى : حِبَّ رسول الله . وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلّقها ، وتزوج دُرَّة بنت أبي لهب ، ثم طلّقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير .
وشهد زيد بدراً والمغازي كلّها . وقُتل في غزوة مُؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسين سنة .
وزوجُ زيد المذكورة في الآية هي زينبُ بنت جَحْش الأسدية وكان اسمها بَرَّة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سمّاها زَينب ، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفاً لآل عبد شمس بمكة وأمها أُميمة بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزّوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلّقها بالمدينة ، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس ، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة ، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة ، أي سنة عشرين قبل البعثة .
والإِتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] وقوله : { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ] ، وفي ذلك تصوير لحثِّ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على إمساك زوجه وأن لا يطلقها ، ومعاودته عليه .
والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العَلم الذي يأتي في قوله : { فلما قضى زيد } لما تشعر به الصلة المعطوفة وهي { وأنعمت عليه } من تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه ، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي { وأنعمت عليه } لأن المقصود منها أن زيداً أخص الناس به ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به ، وأما صلة { أنعم الله عليه } فهي توطئة للثانية .
واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة : أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له ، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده .
وروي عن علي زين العابدين : أن الله أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش . وعن الزهري : نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمه أن الله زوّجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه . وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري{[328]} وأبي بكر بن العربي .
والظاهر عندي : أن ذلك كان في الرؤيا كما أُري أنه قال لعائشة : " أتاني بكِ الملك في المنام في سَرَقَة من حرير يقول لي : هذه امرأتك فأكْشِفُ فإذا هي أنتِ فأقول : إن يكن هذا من عند الله يُمضه " . فقول النبي صلى الله عليه وسلم لزيد : " أمسك عليك زوجك " توفية بحقّ النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة ، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجاً له لأن علم النبي بما سيكون لا يقتضي إجراءَه إرشادَه أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلاً لا يؤمن ولم يمنعه ذلك من أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة ، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمِل الناسَ عليه ، كما كان يرغب أن يقوم أَحد بقتل عبدَ الله بنَ سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع منه إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائباً .
ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصياناً للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه . ولا يلزم أحداً المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها : « لو راجعته ؟ فقالت : يا رسول الله تأمرني ؟ قال : لا إنما أنا أشفع ، قالت : لا حاجة لي فيه » .
وقوله : { أمسك عليك زوجك } يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيد مستشيراً في فراق زوجه ، أو معلماً بعزمه على فراقها .
و { أمسك عليك } معناه : لازِم عشرتها ، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد .
وزيادة { عليك } لدلالة ( على ) على الملازمة والتمكن مثل { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] أو لتضمن { أمسك } معنى احبس ، أي ابق في بيتك زوجك ، وأمرُه بتقوى الله تابع للإِشارة بإمساكها ، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحِدْ عن واجب حسن المعاشرة ، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } [ البقرة : 229 ] .
وجملة { وتخفى في نفسك ما الله مبديه } عطف على جملة { تقول } . والإِتيان بالفعل المضارع في قوله : { وتخفي } للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيداً يُطَلّقها وذلك سرّ بينه وبين ربّه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة في علمه حتى يبلَّغوه ؛ ألا ترى أنه لم يُعلم عائشة ولا أباهَا برؤيا إتياننِ الملَك بها في سَرَقةٍ من حرير إلا بعد أن تزوجها .
فما صْدَقُ « ما في نفسك » هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يُبْدِ الله شيئاً غير ذلك ، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمراً يصلح للإظهار في الخارج ، أي أن يكون من الصور المحسوسة .
وليست جملة { وتخفي في نفسك } حالاً من الضمير في { تقول } كما جعله في « الكشاف » لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاماً يخالف ما هو مخفيّ في نفسه ولا يستقيم له معنى ، إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة ، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد ، وقد استشعر هذا صاحب « الكشاف » فقال : « فإن قلت فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد : أُريدُ مفارقتها ، وكان من الهُجنة أن يقول له : افعَلْ فإني أريد نكاحَها . قلت : كأنَّ الذي أراد منه عز وجل أن يصمُت عند ذلك أو يقول : أنتَ أعلم بشأنك حتى لا يخالف سِرّه في ذلك علانيته » ا هـ وهو بناء على أساس كونه عتاباً وفيه وهَن .
وجملة { وتخشى الناس } عطف على جملة { وتخفي في نفسك } ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه .
والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون ، والكراهةُ من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحداً من ظهور تزوجه بزينب ، ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعدُ ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما يبعثهم على القالة في الناس لفتنة الأمة ، فكان يعلم ما سيقولونه ويمتعض منه ، كما كان منهم في قضية الإِفك ، ولم تكن خشيةً تبلغ به مبلغَ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد ، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون .
والتعريف في { الناس } للعهد ، أي تخشى المنافقين ، أي يؤذوك بأقوالهم .
وجملة { والله أحق أن تخشاه } معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس ، والواو اعتراضية وليست واو الحال ، فمعنى الآية معنى قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } [ المائدة : 44 ] . وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيراً من المفسرين على جعل الكلام عتاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم .
و { أحق } اسم تفضيل مسلوب المفاضَلَة فهو بمعنى حقيق ، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله ، ولا ما يفيد تعارضاً بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس ، والمعنى : والله حقيق بأن تخشاه .
وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله ، لأن الله لم يكلفه شيئاً فعمل بخلافه .
وبهذا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله ، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيداً بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترصه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإِيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينبَ فأسرعا خُطاهما فقال : « على رسلكما إنما هي زينب » . فكبر ذلك عليهما وقالا : سبحان الله يا رسول اللَّه . فقال : « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما » . فمقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستانَ يحوي أصنافاً من المرضى إذا رأى طعاماً يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه .
وليس في قوله : { وتخشى الناس } عتاب ولا لوم ، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين . وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس من سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه ، ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم كما قال تعالى : { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله } [ الأحزاب : 38 ، 39 ] ، وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين ، وعلى نحو قوله : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] ، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية ، وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك .
وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة ، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة ، فلا تصْغِ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيداً بإمساك زوجه ، فإن ذلك من مختلقات القصاصين ؛ فإما أن يكون ذلك اختلافاً من القصاص لتزيين القصة ، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به . ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم ، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال .
ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزّت كثيراً من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب . وقد تصدى أبو بكر بن العربي في « الأحكام » لوهن أسانيدها وكذلك عياض في « الشفاء » .
والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد . ومجموع القصة من ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة ، وقيل رفعتْ الريحُ ستار البيت فرأى النبي عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبَّح للَّه ، وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيداً علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال له : { أمسك عليك زوجك } ( وهو يودّ طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجاً له ) .
وعلى تفاوت أسانيده في الوهن أُلقي إلى الناس في القصة فانتُقل غَثه وسمينه ، وتُحُمِّل خِفه ورزينه ، فأخذ منه كلٌّ ما وسعه فهمُه ودينه ، ولو كان كله واقعاً لما كان فيه مغمز في مقام النبوءة .
فأما رؤيته زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد ، فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكُنَّ يستْرنَ وجوههن قال تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } [ النور : 31 ] ( أي الوجه والكفين ) وزيد كان من أشد الناس اتصالاً بالنبي ، وزينبُ كانت ابنةَ عمته وزوجَ مولاه ومتبنّاه ، فكانت مختلطة بأهله ، وهو الذي زوجها زيداً ، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيتَ زيد ، وإن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبلُ ، فكذلك لا عَجب فيه لأن رؤية الفُجأة لا مؤاخذة عليها ، وحصولَ الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه ، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنّات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة .
وأما ما خطر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله : { وتخشى الناس } ليس بلوم ، وأن قوله : { والله أحق أن تخشاه } ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس .
وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفُتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المَرائِي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلاً على تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام وهو أفضل من ترسخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيداً في إمساك زوجه مشيراً عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارةً ونصحاً لا أمراً وشرعاً .
ولو صح أن زيداً علم مودة النبي صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيد لذلك دون أمر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجباً فإنهم كانوا يؤثرون النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ، وقد تنازل له دِحية الكلبي عن صفية بنت حُيَي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خَيبر ، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان بن عوف أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما .
وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة ، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحةً وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل . والتخليط بين الحالين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم اللَّه في الباطن ، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث . وليس هذا من خائنة الأعين ، كما توهمه من لا يُحسن ، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد .
وليس هو أيضاً من الكذب لأن قول النبي عليه الصلاة والسّلام لزيد { أمسك عليك زوجك واتق الله } لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما يناقضه لو قال : إنّي أُحب أن تمسك زوجك ، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار . ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير ، وإن كان صلاح المشير في خلافه ، فضلاً على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالُف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثّر .
فإن قلت : فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك } الآية .
قلت : أرادت أن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سراً في نفسه لم يطلع عليه أحدٌ إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد . وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد من قوله : { أمسك عليك زوجك } . فلما طلقها زيد ورام تزوجها علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء ، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خَبره بلَّغه ولم يكتمه مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة ، فلو كان كاتماً لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربّه تعالى ، ولكنه لما كان وحياً بلّغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه .
واعلم أن للحقائق نِصابها ، وللتصرفات موانعها وأسبابَها ، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد ، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد ، فإذا تفشَّت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو ساءت ، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت ، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها ، والمباعدة بين الحقائق وشرعها .
ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها ، وينزلها من صياصيها ، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه ، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه .
{ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زوجناكها لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً } .
تفريع على جملة { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } الآية ، وقد طوي كلام يدل عليه السياق ، وتقديره : فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها .
ومعنى { قضى } استوفى وأتم . واسم { زيد } إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فلما قضى منها وطراً ، أي قضى الذي أنعم الله وأنعمت عليه ، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد . قال القرطبي : قال السهيلي : كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهي أنه سماه في القرآن ، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوّه غاية التنويه ا ه .
والوطر : الحاجة المهمة ، والنهمة قال النابغة :
فمن يكن قد قضى من خَلة وطَراً *** فإنني منككِ ما قَضَّيت أوطاري
والمعنى : فلما استتم زيد مدة معاشرة زينب فطلقها ، أي فلما لم يبق له وطرٌ منها .
ومعنى { زوجناكها } أَذِنَّا لك بأن تتزوجها ، وكانت زينب أيِّماً فتزوجها الرسول عليه الصّلاة والسّلام برضاها .
وذكر أهل السِير : أنها زوّجها إياه أخوها أبو أحمد الضرير واسمه عبد بن جَحش ، فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطُب زينب عليَّ ، قال زيد : فجئتها فوليتها ظهري توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت : يا زينب أرسل رسول الله يذكرك . فقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أُوَامر ربي ، وقامت إلى مسجدها وصلَّت صلاة الاستِخارة فرضيت ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فبنى بها . وكانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكنَّ آباؤكن وزوّجني ربّي . وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم عند الذين يشترطون الولي في النكاح كالمالكيّة دون قول الحنفية . ولم يذكر في الروايات أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أصدقها فعدّه بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فيكون في تزوُّجها خصوصيتان نبويّتان .
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة ، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه ، فلما أبطله الله بالقول إذ قال : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل : إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال ، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم .
والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول : ليست العلة غير ذلك ، ودلت الآية على أن الأصل في الأحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبي صلى الله عليه وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية .
وجملة { وكان أمر الله مفعولاً } تذييل لجملة { زوجناكها } . وأمر الله يجوز أن يراد به من أمر به من إباحة تزوج من كنّ حلائل الأدعياء ، فهو بمعنى الأمر التشريعي فيه . ومعنى { مفعولاً } أنه متّبع ممتثل فلا يتنزه أحد عنه ، قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] .
ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقَدّر أسباب كونه ، فيكون معنى { مفعولاً } واقعاً ، والأمر من إطلاق السبب على المسبب ، والمفعول هو المسبب .
وتزوُّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين .