قوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي : عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهم بنو قريظة ، { من صياصيهم } حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراً بعمامة من استبرق على بلغة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقه ، فقال : قد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فقال جبريل : عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم . وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه وعن وجه فرسه ، فقال : إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إلى بني قريظة ، فانهزم إليهم ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فأذن : أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم ، وابتدرها الناس فصار علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم ، أظنك سمعت لي منهم أذىً ؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ . قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً . ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصور من قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال هل مر بكم أحد ؟ فقالوا : نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال عليه السلام : ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم . فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب . وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده . فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هن ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم ؟ قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة . قالوا : أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد عملت فصأبهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازماً ؟ قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم ، فقالوا : يا أبا لبابة أترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، قالوا : ماذا يفعل بنا إذا نزلنا ؟ فأشار بيده إلى حلقة أنه الذبح ، قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبداً ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه ، قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة ، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك قلت مما تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك ؟ قال : تيب على أبي لبابة ، فقلت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله ؟ فقال : بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده ، فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى الصبح أطلقه ، ثم قال : إن ثعلبة بن سعيد وأسيد بن شعبة ، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا ؟ قال : عمرو بن سعدي ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا أغدر بمحمد أبداً ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله ، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين يذهب من أرض الله ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ، فقال : ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه . وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين يذهب ، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، والله أعلم . فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فذاك إلى سعد بن معاذ ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ، فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيماً ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه ، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من ها هنا من الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقاً ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيسا القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً : يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب : أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وأن من يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل ، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضرب عنقه . وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهراً وبطناً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله هي قالت قلت : ويلك مالك ؟ قالت : أقتل ، قلت : ولم ؟ قالت : حدث أحدثته ، قالت : فانطلق بها فضربت عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى عجباً منها طيب نفس وكثرة ضحك ، وقد عرفت أنها تقتل . قال الواقدي : وكان اسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي كانت قتلت خلاد بن سويد ، رمت عليه رحى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فضربت عنقها بخلاد بن سويد ، قال : وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هنالك . وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطل القرظي ، وكان يكنى أبا عبد الرحمن ، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟ قال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إني أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إن الكريم يجزي الكريم ، قال : ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك فأتاه فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك ، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أهله وماله ؟ قال : هم لك فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال : أهل بيت الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماله يا رسول الله ؟ قال : هو لك ، قال : فأتاه فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك ، فقال : أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد ، قال : قتل ، قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموال ؟ قال : قتل ، قال : فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؟ قال : ذهبوا قتلوا ، قال : فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير ، فما أنا بصابر حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه ، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة ، قال : يلقاهم والله في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً . قالوا : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم ، ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأموالهم على المسلمين ، وأعزل في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرساً وكان أول فيء وقع فيه السهمان ، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلاً وسلاحاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك . فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة ، فبشره بذلك . فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك ، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد ، قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى : { رحماء بينهم } وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا يحيى بن آدم ، أنبأنا إسرائيل ، سمعت أبا إسحاق يقول ، سمعت سليمان بن صرد يقول ، " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه : الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا قتيبة ، أنبأنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا إله إلا الله وحده ، أعز جنده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده " . قال الله تعالى في قصة قريظة : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } { وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون } وهم الرجال ، يقال : كانوا ستمائة ، { وتأسرون فريقاً } وهم النساء والذراري ، يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : تسعمائة .
{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ } أي عاونوهم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : اليهود { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي : أنزلهم من حصونهم ، نزولاً مظفورًا بهم ، مجعولين تحت حكم الإسلام .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال ، بل استسلموا وخضعوا وذلوا . { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } مَنْ عداهم من النساء والصبيان .
ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم . بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود :
( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين . .
إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدوا ، ولا يمدوا يدا بأذى .
ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول . وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة . كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة . فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه !
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبدالله بن سلام . ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه . ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود . فطلب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه ! فقالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا . فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم ، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به . فوقعوا فيه ، وقالوا قالة السوء ، وحذروا منه أحياء اليهود . وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي . فاعتزموا الكيد لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] كيدا لا هوادة فيه .
ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود !
لقد بدأت في أول الأمر حربا باردة ، بتعبير أيامنا هذه . بدأت حرب دعاية ضد محمد - عليه الصلاة والسلام - وضد الإسلام . واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله . اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة . واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض . بين الأوس والخزرج مرة ، وبين الأنصار والمهاجرين مرة . واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين . واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين . . و أخيرا أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين ، كالذي حدث في غزوة الأحزاب . .
وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة . وكان لكل منها شأن مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومع المسلمين .
فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود ، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر ؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته ، بعدما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم .
وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن اسحاق ما كان من أمرهم قال :
وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : " يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم " قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة . إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس .
وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال :
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها ، فصاحت . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديا ، وشدت يهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال :
فحاصرهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى نزلوا على حكمه ، فقام عبد الله بن أبي بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا محمد أحسن في موالي . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرسلني . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا . ثم قال : ويحك ! أرسلني . قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربع مائة حاسر . وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود . تحصدهم في غداة واحدة . إني والله امرؤ أخشى الدوائر . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هم لك .
وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه . فقبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة ، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح . وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة .
وأما بنو النضير ، فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم . فلما أتاهم قالوا : نعم يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه . ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه ?
ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة ، فألهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم . فتحصنوا منه في الحصون . وأرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول [ رأس النفاق ] أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم . إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم . ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم . وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال . وسألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح . ففعل . فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . و من أشرافهم - ممن سار إلى خيبر - سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب . . هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب .
والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة . وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلبا على المسلمين مع المشركين ، بتحريض من زعماء بني النضير ، وحيي بن أخطب على رأسهم . وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة .
ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين ، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حين انتهى إليه الخبر ، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومعهما عبدالله بن رواحة ، وخوات بن جبير - رضي الله عنهم - فقال " انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ? فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس . وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس " . . [ مما يصور ما كان يتوقعه [ صلى الله عليه وسلم ] من وقع الخبر في النفوس ] .
فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم . نالوا من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقالوا : من رسول الله ? لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ! . . ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالتلميح لا بالتصريح . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " الله أكبر . أبشروا يا معشر المسلمين " . . [ تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف ] .
ويقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء ؛ واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم . حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين . . الخ .
فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب .
فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره ، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرا ؛ وكفى الله المؤمنين القتال . . رجع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى المدينة منصورا ، ووضع الناس السلاح ، فبينما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يغتسل من وعثاء المرابطة ، في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - إذ تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال : " أوضعت السلاح يا رسول الله ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . قال : " ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها ! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم " . ثم قال : " إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة " - وكانت على أميال من المدينة - . وذلك بعد صلاة الظهر . وقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . فسار الناس في الطريق ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا تعجيل المسير . وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يعنف واحدا من الفريقين .
وتبعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم [ صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى . . . ] رضي الله عنه - وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ثم نازلهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة . فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس - رضي الله عنه - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية . واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك . ولم يعلموا أن سعدا - رضي الله عنه - كان قد أصابه سهم في أكحله [ وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع ] أيام الخندق فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب وقال سعد - رضي الله عنه - فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنا لها وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . فاستجاب الله تعالى دعاءه . وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم ، طلبا من تلقاء أنفسهم .
فعند ذلك استدعاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من المدينة ليحكم فيهم . فلما أقبل - وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه - جعل الأوس يلوذون به ، يقولون : يا سعد إنهم مواليك ، فأحسن عليهم ويرققونه عليهم ويعطفونه . وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال - رضي الله عنه - : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فعرفوا أنه غير مستبقيهم !
فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال رسول الله : " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم .
فلما جلس قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك . فاحكم فيهم بما شئت " فقال - رضي الله عنه - : وحكمي نافذ عليهم ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . قال : وعلى من في هذه الخيمة ? قال : " نعم " . قال : وعلى من ها هنا [ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو معرض بوجهه عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إجلالا وإكراما وإعظاما ] . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " . فقال - رضي الله عنه - : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم وأموالهم . فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوقسبعة أرقعة " [ أي سماوات ] .
ثم أمر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالأخاديد فخدت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم . وكانوا ما بين السبع مائة ، والثماني مائة . وسبي من لم ينبت [ كناية عن البلوغ ] مع النساء والأموال . وفيهم حيي بن أخطب . وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم .
ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود ، وضعفت حركة النفاق في المدينة ؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم ، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون . وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين ، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم . حتى كان فتح مكة والطائف . ويمكن أن يقال : إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين . وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم ، وإنه كان فارقا واضحا بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها .
( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا ) .
والصياصي : الحصون . و الأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها ، ربما كانت أرضا مملوكة لبني قريظة خارج محلتهم . وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم . وربما كانت إشارة إلى تسليم بني قريظة أرضهم بغير قتال . ويكون الوطء معناه الحرب التي توطأ فيها الأرض .
( وكان الله على كل شيء قديرا ) . .
فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع ؛ وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله . وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله . ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة . تثبيتا لهذه الحقيقة الكبيرة ، التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة ، وبالقرآن بعد الأحداث ، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس .
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم . وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء .
وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية ؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها ، ولاتجاهها وتصوراتها . وتستقر القيم ، وتطمئن القلوب ، بالابتلاء وبالقرآن سواء !
{ وأنزل الذين ظاهروهم } ظاهروا الأحزاب . { من أهل الكتاب } يعني قريظة . { من صياصيهم } من حصونهم جمع صيصية وهي ما يتحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك . { وقذف في قلوبهم الرعب } الخوف وقرئ بالضم . { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } وقرئ بضم السين روي : أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب فقال : أتنزع لامتك والملائكة لم يضعوا السلاح أن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، فحاصرهم إحدى وعشرين أو خمسا وعشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم : تنزلون على حكمي فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، فقتل منهم ستمائة أو أكثر وأسر منهم سبعمائة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر يهود أهل قريظة حيي بن أخطب ومن معه، الذين أعانوا المشركين يوم الخندق على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} أعانوهم، تعني اليهود أعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{من أهل الكتاب} قريظة {من صياصيهم} من حصونهم.
{وقذف في قلوبهم الرعب فريقا} طائفة {تقتلون} فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا.
{وتأسرون فريقا} وتسبون طائفة سبعمائة وخمسين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتهم إياه، وعنى بذلك بني قريظة، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله "مِنْ أهْلِ الكِتابِ "يعني: من أهل التوراة، وكانوا يهود: وقوله: "منْ صَياصِيهمْ" يعني: من حصونهم...
عن قتادة، قوله: "وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ" وهم بنو قُرَيظة، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال قال: فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلك سكة بني غنم، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم: يا إخوان القردة، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فحاشا، فنزلوا على حكم ابن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح، فأنزل الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال: فإنكم كنتم ذوي عقار، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال: «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ»...
وقوله: "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ" يقول: وألقى في قلوبهم الخوف منكم "فَريقا تَقْتُلُونَ" يقول: تقتلون منهم جماعة، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم، "وتَأْسِرُونَ فَرِيقا" يقول: وتأسرون منهم جماعة، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنّ الحقَّ -سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزِّزَهم، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم، وسَبى ذراريهم.
{وقذف} فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر، قدم الإنزال على قذف الرعب، والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً في إتيانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: {وأنزل الذين ظاهروهم}.
ثم بينهم بقوله مبعضاً: {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قينقاع وبني النضير {من صياصيهم}
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفوائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.
ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: {فريقاً} فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: {تقتلون} وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة.
ولما بدأ بما دل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال: {وتأسرون فريقاً} ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلاً عن المخالفة والاستعصاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم، وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء، وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها، وتستقر القيم وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.. وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. (4)} [المنافقون].
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.