البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

الصياصي : الحصون ، واحدها صيصية ، وهي كل ما يمتنع به . ويقال لقرن الصور والظبي ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه الذيفي ساقه لأنه يتحصن به . والصياصي أيضاً : شوكة الحاكة ، ويتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة :

كوقع الصياصي في النسيج المدد ***

{ وأنزل الذين ظاهروهم } : أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب ، هم يهود بني قريظة ، كما هو قول الجمهور .

وعن الحسن : بنو النضير .

وقذف الرعب سبب لإنزالهم ، ولكنه قدم المسبب ، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم .

وقال رجل : يا رسول الله ، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج ، فقال : « ذلك جبريل ، عليه السلام ، بعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم » ولما رجعت الأحزاب ، جاء جبريل وقت الظهر فقال : إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة .

فنادى في الناس : « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » ، فخرجوا إليها ، فمصل في الطريق ، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ؛ ومصل بعد العشاء ، وكل مصيب .

فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمسة عشر .

فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، لحلف كان بينهم ، رجوا حنوه عليهم ، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار .

فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن يكون لهم أموال كما لكم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة » ، ثم استنزلهم ، وخندق لهم في سوق المدينة ، وقدمهم فضرب أعناقهم ، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة .

وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير .

وجيء يحيي بن أخطب النضيري ، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عندهم وفاء لهم ، فترك فيمن ترك على حكم سعد .

فلما قرب ، وعليه حلتان تفاحيتان ، مجموعة يداه إلى عنقه ، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ! والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكن من يخذل الله يخذل .

ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس أمر الله وقدره ، ومحنة كتبت على بني إسرائيل ، ثم تقدم فضربت عنقه .

وقال فيه بعض بني ثعلبة :

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يخذل

لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها *** وقلقل يبغي الغد كل مقلقل

وقتل من نسائهم امرأة ، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي ، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل ؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره .

ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن ، أخو عكاشة بن محصن ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة .

وقرأ الجمهور : وتأسرون ، بتاء الخطاب وكسر السين ؛ وأبو حيوة : بضمها ؛ واليماني : بياء الغيبة ؛ وابن أنس ، عن ابن ذكوان : بياء الغيبة في : { تقتلون وتأسرون } .