المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

وقوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم } يريد بني قريظة بإجماع من المفسرين ، قال الرماني وقال الحسن الذين أنزلوا { من صياصيهم } بنو النضير ، وقال الناس : هم بنو قريظة ، وذلك أنهم لما غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا الأحزاب عليه أراد الله تعالى النقمة منهم ، فلما ذهب الأحزاب جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك بالخروج إلى بني قريظة ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال لهم : «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » ، فخرج الناس إليها ووصلها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر وقوفاً مع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخطئهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وصلى قوم في الطريق ورأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج مخرج التأكيد فلم يخطئهم أيضاً ، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة ، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، وكان بينهم وبين الأوس حلف فرجوا حنوه عليهم ، فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة ، وتسبى الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت له الأنصار ، فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن تكون لهم أموال ، كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة ){[9492]} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم فأخرجوا أرسالاً{[9493]} وضرب أعناقهم وهم من الثمانمائة إلى التسعمائة ، وسيق فيهم حيي بن أخطب النضري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ذهب الأحزاب دخل عندهم وفاء لهم ، فأخذه الحصر حتى نزل فيمن نزل على حكم سعد ، فلما نزل وعليه حلتان فقاحيتان{[9494]} ، ويداه مجموعة إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : والله يا محمد أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولقد اجتهدت ، ولكن من يخذل الله يخذل ، ثم قال : أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل{[9495]} ثم تقدم فضربت عنقه ، وفيه يقول جبل بن حوال الثعلبي : [ الطويل ]

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه . . . ولكنه من يخذل الله يخذل

لأجهد حتى أبلغ النفس عذرها . . . وقلقل يبغي العز كل مقلقل{[9496]}

و { ظاهروهم } معناه عاونوهم ، وقرأ عبد الله بن مسعود «آزروهم » وهي بمعنى { ظاهروهم } و «الصياصي » : الحصون ، واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به ، ومنه يقال لقرون البقر الصياصي ، والصياصي أيضاً : شوك الحاكة{[9497]} ، وتتخذ من حديد ، ومنه قول دريد بن الصمة : [ الطويل ]

كوقع الصاصي في النسيخ الممدّد{[9498]} . . .

والفريق المقتول : الرجال المقاتلة ، والفريق المأسور : العيال والذرية ، وقرأ الجمهور «وتأسِرون » بكسر السين ، وقرأ أبو حيوة «تأسُرون » بضم السين .


[9492]:أي: من فوق سبع سموات، الأرقعة: جمع رقيع، والرقيع: السماء؛ سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
[9493]:أي: جماعات.
[9494]:الحلة الفقاحية هي التي لونها بلون الورد حين يبدأ في التفتح.
[9495]:الملحمة: الحرب الشديدة.
[9496]:كان جبل بن جوال هذا من بني ثعلبة بن سعد، وكان يهوديا، ثم أنعم الله عليه بنعمة الإسلام، وكانت له صحبة، ومعنى قلقل: تحرك.(راجع سيرة ابن هشام والاستيعاب).
[9497]:يريد شوكة يستخدمها النساجون.
[9498]:هذا عجر بيت نم قصيدة طويلة قالها دريد يرثي أخاه عبد الله، وفي مطلعها يقول: أرث جديد الحبل من أم معبد بعاقبة وأخلفت كل موعد والبيت بتمامه: نظرت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد وتنوشه: تتناوله، والصياصي جمع صيصية أو صيصة: شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة، والبيت في الأغاني، وفي اللسان، والرواية فيه:(فجئت إليه).