السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا} (26)

ولما أتم الله حال الأحزاب أتبعه حال من عاونوهم بقوله تعالى : { وأنزل الذين ظاهروهم } أي : عاونوا الأحزاب { من أهل الكتاب } وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير { من صياصيهم } أي : حصونهم متعلق بأنزل ، ومن لابتداء الغاية والصياصي جمع صيصية وهي الحصون والقلاع والمعاقل ، ويقال : لكل ما يمتنع به ويتحصن فيه صيصية ، ومنه قيل لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك صيصية ، عن سعيد بن جبير قال : كان يوم الخندق بالمدينة فجاء أبو سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش ، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن ، ومن تبعه من غطفان وطليحة ، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور ، ومن تبعهم من بين سليم وقريظة ، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } .

وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال : ما هذا يا جبريل قال : من متابعة قريش فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس .

فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال : أظنك سمعت فيَّ منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصنهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً ، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال : هل مر بكم أحد قالوا : مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال صلى الله عليه وسلم : «ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب » .

ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة » فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك ، ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده ، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل ، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم .

قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحداً ولا شيئاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لتحدث النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم ، قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب منهم غرة قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا فتركهم .

قال علماء السير : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكمي ؟ فأبوا وكانوا قد طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس يستشيرونه في أمرهم ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يعني أنه يقتلكم قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى قد عرفت أني خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح من مكاني حتى يتوب الله تعالى علي مما صنعت ، وعاهد الله تعالى لا يطأ بني قريظة أبداً ولا يراني الله تعالى في بلد خنت فيه الله ورسوله .

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة » ، ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير { وقذف } أي : الله تعالى { في قلوبهم الرعب } حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي كما قال الله تعالى : { فريقاً تقتلون } وهم الرجال يقال : كانوا ستمائة { وتأسرون فريقاً } وهم النساء والذراري يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : تسعمائة .

فإن قيل : ما فائدة تقديم المفعول في الأول حيث قال تعالى : { فريقاً تقتلون } وتأخيره في الثاني حيث قال : { وتأسرون فريقاً } أجيب : بأن الرازي قال : ما من شيء من القرآن إلا وله فائدة ، منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر ، والذي يظهر من هذا والله أعلم ؛ أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب ، والرجال كانوا مشهورين ، وكان القتل وارداً عليهم ، وكان الأسراء هم النساء والذراري ولم يكونوا مشهورين ، والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما اشتهر على الفعل القائم به ، ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي انتهى . وقرأ ابن عامر والكسائي الرعب بضم العين والباقون بسكونها .