قوله تعالى : { إني أريد أن تبوء } ترجع ، وقيل : تحتمل .
قوله تعالى : { بإثمي وإثمك } ، أي : بإثم قتلي إلى إثمك ، أي إثم مصاعيك التي علمت من قبل ، هذا قول أكثر المفسرين . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني ، وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً ، وقيل معناه : أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك ، أو إثم حسدك . فإن قيل : كيف قال : " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " ، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز ؟ قيل : ذلك ليس بحقيقة إرادة ، ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ، وطن نفسه على الاستسلام طلباً للثواب ، فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً ، وإن لم يكن مريداً حقيقة ، وقيل معناه : إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي ، فتكون إرادة صحيحة لأنها موافقة لحكم الله عز وجل ، فلا يكون هذا إرادة للقتل ، بل لموجب القتل من الإثم و العقاب .
أجل . لقد كان في ذلك كفاية . . ولكن الأخ الصالح يضيف إليه النذير والتحذير :
( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين ) . .
إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني ، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك . فهذا الخاطر - خاطر القتل - لا يدور بنفسي أصلا ، ولا يتجه اليه فكري إطلاقا . . خوفا من الله رب العالمين . . لا عجزا عن إتيانه . . وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك ؛ فيكون إثمك مضاعفا ، وعذابك مضاعفا . . ( وذلك جزاء الظالمين ) . .
وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل ، ليثنيه عما تراوده به نفسه ، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي .
وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه ، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف ، بالخوف من الله رب العالمين ؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان .
وقوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي ، في قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك .
قال ابن جرير : وقال آخرون : يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي . وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطًا ؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه . يعني : ما رواه سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } قال : بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } قال : بما كان منك قبل ذلك .
وكذا روى{[9645]} عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثْله ، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعًا .
قلت : وقد يتوهم{[9646]} كثير من الناس هذا القول ، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له : ما ترك القاتل على المقتول من ذنب .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا ، ولكن ليس به ، فقال : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثنَا يعقوب بن عبد الله ، حدثنا عتبة{[9647]} بن سعيد ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه " .
وهذا بهذا لا يصح{[9648]} ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا . ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص ، وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت{[9649]} ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت{[9650]} على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل . وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها ، والله أعلم .
وأما ابن جرير فقال{[9651]} : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي - وذلك هو معنى قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } وأما معنى { وَإِثْمِكَ } فهو إثمه بغير{[9652]} قتله ، وذلك معصيته الله ، عز وجل ، في أعمال سواه .
وإنما قلنا هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه ، وأن الله ، عز وجل ، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه{[9653]} وإذا كان هذا{[9654]} حكمه في خلقه ، فغير جائز أن تكون{[9655]} آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله .
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله ، وإثم نفسه ، مع أن قتله له محرم ؟ وأجاب بما حاصله{[9656]} أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكف يده عنه ، طالبًا - إنْ وقع قتل - أن يكون من أخيه لا منه .
قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرًا له لو انزجر ؛ ولهذا قال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
وقوله : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } الآية ، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة ، وإنما هو تخير في شرين ، كما تقول العرب في الشر خيار ، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً سيستنصر الله لي في الآخرة ، وتبوء معناه تمضي متحملاً . وقوله : { بإثمي وإثمك } قيل معناه : بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك ، وقيل المعنى : بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل ، وقيل المعنى : بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه »{[4509]} ، فكأن هابيل أراد : أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي ، وقيل المعنى : بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي «تبوء بإثمك » في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه{[4510]} ، وقوله تعالى : { وذلك جزاء الظالمين } يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه ، ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم .