قوله تعالى : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } ، أي : يمطرون ، من الغيث : وهو المطر . وقيل : ينقذون من قول العرب استغثت فلانا فأغاثني ، { وفيه يعصرون } ، قرأ حمزة والكسائي : { يعصرون } ، بالتاء ، لأن الكلام كله على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء ردا إلى الناس ، ومعناه : يعصرون العنب خمرا والزيتون زيتا والسمسم دهنا . وأراد به كثرة النعيم والخير . وقال أبو عبيدة : يعصرون أي ينجون من الكروب والجدب ، والعصر والعصرة : المنجاة والملجأ .
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : بعد السبع الشداد { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي : فيه تكثر الأمطار والسيول ، وتكثر الغلات ، وتزيد على أقواتهم ، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم ، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب ، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك ، لأنه فهم من التقدير{[444]} بالسبع الشداد ، أن العام الذي يليها يزول به شدتها ، . ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات ، إلا بعام مخصب جدا ، وإلا لما كان للتقدير فائدة ، فلما رجع الرسول إلى الملك والناس ، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا ، عجبوا من ذلك ، وفرحوا بها أشد الفرح .
( ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) . .
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة ، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب . تنقضي ويعقبها عام رخاء ، يغاث الناس فيه بالزرع والماء ، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا ، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا . .
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك ؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس ، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد .
هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه{[15192]} { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ، لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها . فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين{[15193]} كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ بعضهم : " بعد أَمِةٍ " أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ } أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن . ومعنى الكلام : فبعثوا{[15194]} فجاء . فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } أي{[15195]} يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛ لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر ، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم{[15196]} في هذه السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه ، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سني{[15197]} الجَدْب يؤكل فيها ما جَمَعَوه في سني{[15198]} الخصب ، وهن السنبلات اليابسات .
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل{[15199]} فيه حلب اللبن أيضًا .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون .
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس } يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث . { وفيه يعصرون } ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار . وقيل يحلبون الضروع . وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي ، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا ، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر . وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب ، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم .
وقوله : { يغاث } جائز أن يكون من الغيث ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ، أي يمطرون ، وجائز أن يكون من أغاثهم الله ، أذا فرج عنهم ، ومنه الغوث وهو الفرج .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يَعصِرون » بفتح الياء وكسر الصاد ، وقرأ حمزة والكسائي ذلك بالتاء على المخاطبة ، وقال جمهور المفسرين : هي من عصر النباتات كالزيتون والعنب والقصب والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ، ومصر بلد عصر لأشياء كثيرة ؛ وروي أنهم لم يعصروا شيئاً مدة الجدب ، والحلب منه لأنه عصر للضروع . وقال أبو عبيدة وغيره : ذلك مأخوذ من العصرة والعصر{[6718]} وهو الملجأ ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه : [ الخفيف ]
صادياً يستغيث غير مغاث*** ولقد كان عصرة المنجود{[6719]}
ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
لو بغير الماء حلقي شرق*** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري{[6720]}
وصاحبي وهوه مستوهل زعل*** يحول بين حمار الوحش والعصر{[6721]}
فبات وأسرى القوم آخر ليلهم*** وما كان وقافاً بغير معصر{[6722]}
أي بغير ملتجأ ، فالآية على معنى ينجون بالعصرة .
وقرأ الأعرج وعيسى وجعفر بن محمد » يُعصَرون «بضم الياء وفتح الصاد ، وهذا مأخوذ من العصرة ، أي يؤتون بعصرة ؛ ويحتمل أن يكون من عصرات السحاب ماءها عليهم ، قال ابن المستنير : معناها يمطرون ، وحكى النقاش أنه قرىء » يعصرون «وجعلها من عصر البلل ونحوه . ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة رداً كثيراً بغير حجة{[6723]} .