المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

269- يعطي صفة الحكمة من إصابة الحق في القول والعمل من يشاء من عباده ، ومن أُعْطِي ذلك فقد نال خيراً كثيراً لأن به انتظام أمر الدنيا والآخرة ، وما ينتفع بالعظة والاعتبار بأعمال القرآن إلا ذوو العقول السليمة التي تدرك الحقائق من غير طغيان الأهواء الفاسدة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } . قال السدي : هي النبوة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : علم القرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله ، وقال الضحاك : القرآن والفهم فيه ، وقال : في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام ، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن ، ولا يكونوا كأهل النهروان ، تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة ، وإنما أنزلت في أهل الكتاب ، جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء ، وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة ، فعليكم بعلم القرآن ، فإنه من علم فيم أنزل الله لم يختلف في شيء منه . وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والفقه .

وروى ابن أبي نجيح عنه : الإصابة في القول والفعل ، وقال إبراهيم النخعي : معرفة معاني الأشياء وفهمها .

قوله تعالى : { ومن يؤت الحكمة } . من في محل الرفع على ما لم يسم فاعله ، والحكمة خبره ، وقرأ يعقوب : ( يؤت الحكمة ) بكسر التاء أي من يؤته الله الحكمة ، دليله قراءة الأعمش ، ( ومن يؤته الله ) حكي عن الحسن ( ومن يؤت الحكمة ) قال : الورع في دين الله .

قوله تعالى : { فقد أوتي خيراً كثيراً } . قال الحسن : كمن أعطي القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لم يوح إليه .

قوله تعالى : { وما يذكر } . يتعظ .

قوله تعالى : { إلا أولو الألباب } . ذوو العقول .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

ثم قال تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ }

لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد ، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة ، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما ! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء ، فكمال العبد متوقف على الحكمة ، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به ، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر ، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره ، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك ، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق ، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم ، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ، وما يضرهم فتركوه ، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة ، والعقول التامة ، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم ، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد ، وتركوا طاعة رب العباد ، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب ، فلهذا قال تعالى : { وما يذكر إلا أولو الألباب }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

261

يعطي عن سعة ، ويعلم ما يوسوس في الصدور ، وما يهجس في الضمير ، والله لا يعطي المال وحده ، ولا يعطي المغفرة وحدها . إنما يعطي ( الحكمة ) وهي توخي القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك :

( يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) . .

أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . .

( وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .

فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى ، ويتنبه فلا يغفل ، ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ؛ وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .

هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي : رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . . وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى : أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها ، بل يعينه عليها : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) . . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير .

وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) . ( يؤتي الحكمة من يشاء . . . ) . .

إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما : طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .

هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار . . ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ) . . لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة . . وإنما هو الهدى أو الضلال . وهو الحق واحد لا يتعدد . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ !

/خ274

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

وقوله : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .

وروى جُوَيْبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعًا : الحكمة : القرآن{[4479]} . يعني : تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه [ قد ]{[4480]} قرأه البر والفاجر . رواه ابن مَرْدُويه .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة : الإصابة في القول .

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء } ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن .

وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة .

وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق بقية ، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعًا : " رأس الحكمة مخافة الله " {[4481]} .

وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة : الكتاب والفهم . وقال إبراهيم النخَعي : الحكمة : الفهم . وقال أبو مالك : الحكمة : السنة . وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة : العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك ، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه ، عالمًا بأمر دينه ، بصيرًا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله .

وقال السدي : الحكمة : النبوة .

والصحيح أن الحكمة - كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع ، كما جاء في بعض الأحاديث : " من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه{[4482]} غير أنه لا يوحى إليه " {[4483]} . رواه{[4484]} وَكِيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع{[4485]} عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر {[4486]} وقوله .

وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويزيد{[4487]} قالا حدثنا إسماعيل - يعني ابن أبي خالد - عن قيس - وهو ابن أبي حازم - عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها " {[4488]} .

وهكذا رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجة - من طرق متعددة - عن إسماعيل بن أبي خالد ، به{[4489]} .

وقوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ } أي : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام .


[4479]:عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/66) لابن مردويه في تفسيره وإسناده ضعيف جدا.
[4480]:زيادة من أ، و.
[4481]:ورواه البيهقي وضعفه في شعب الإيمان برقم (744) من طريق محمد بن وصفي عن بقية به، ورواه البيهقي أيضا من وجه آخر موقوفا على ابن مسعود.
[4482]:في جـ، أ، و: "بين جنبيه".
[4483]:وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وقال ابن عدي: أحاديثه كلها مما فيه نظر.
[4484]:في جـ: "ورواه".
[4485]:في أ، و: "عن إسماعيل بن رافع أبي رافع".
[4486]:في أ، و: "بن عمرو".
[4487]:في أ: "وزيد".
[4488]:المسند (1/432).
[4489]:صحيح البخاري برقم (73) وصحيح مسلم برقم (816) وسنن النسائي الكبرى برقم (5840) وسنن ابن ماجة برقم (4208).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ }

يعني بذلك جل ثناؤه : يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم ، فقد أوتي خيراً كثيراً .

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع هي القرآن والفقه به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يعني المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدّمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : الحكمة : القرآن ، والفقه في القرآن .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً والحكمة : الفقه في القرآن .

حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : حدثنا شعيب بن الحبحاب ، عن أبي العالية : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً قال : الكتاب والفهم فيه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قوله : يُوْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ . . . الآية ، قال : ليست بالنبوّة ، ولكنه القرآن والعلم والفقه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الفقه في القرآن .

وقال آخرون : معنى الحكمة : الإصابة في القول والفعل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، قال : سمعت مجاهداً قال : وَمَنْ يُءَوتَ الحِكْمَةَ قال : الإصابة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : يُءَوتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : يؤتي إصابته من يشاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يُؤْتِي الحِكَمَةَ مَنْ يَشَاءُ قال : الكتاب ، يؤتي إصابته .

وقال آخرون : هو العلم بالدين . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ العقل في الدين ، وقرأ : وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الحكمة : العقل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لمالك : وما الحكمة ؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .

وقال آخرون : الحكمة : الفهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، قال : الحكمة : هي الفهم . وقال آخرون : هي الخشية . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ . . . الآية ، قال : الحكمة : الخشية ، لأن رأس كل شيء خشية الله ، وقرأ : إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ .

وقال آخرون : هي النبوّة . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : يُؤتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُءَوَت الحِكْمَةَ . . . الآية . قال : الحكمة : هي النبوّة .

وقد بينا فيما مضى معنى الحكمة ، وأنها مأخوذة من الحكم وفصل القضاء ، وأنها الإصابة بما دلّ على صحته ، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع . فإذا كان ذلك كذلك معناه ، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلاً فيما قلنا من ذلك ، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة . وإذا كان ذلك كذلك كان المصيب عن فهم منه بمواضعٍ الصواب في أموره فهماً خاشياً لله فقيهاً عالماً ، وكانت النبوّة من أقسامه ، لأن الأنبياء مسددون مفهّمون ، وموفّقون لإصابة الصواب في بعض الأمور ، والنبوّة بعض معاني الحكمة .

فتأويل الكلام : يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء ، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيراً كثيراً .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُو الألْبَابِ .

يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالَهُم بما وعظ به غيرهم فيها ، وفي غيرها من آي كتابه ، فيذكر وعده ووعيده فيها ، فينزجر عما زجره عنه ربه ، ويطيعه فيما أمره به ، إِلاّ أُولُوا أَلالْبَابِ ، يعني : إلا أولوا العقول الذين عقلوا عن الله عزّ وجلّ أمره ونهيه . فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحِجا والحلوم ، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النّهَى والعقول .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يُؤۡتِي ٱلۡحِكۡمَةَ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِيَ خَيۡرٗا كَثِيرٗاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (269)

هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآدَاب وتلقين الأخلاق الكريمة ، مِما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل .

فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به ، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء . فالمعنى : هذا من الحكمة التي آتاكم الله ، فهو يؤتى الحكمة من يشاء ، وهذا كقوله : { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] .

قال الفخر : « نبه على أنّ الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمان على وعد الشيطان هو أنّ وعد الرحمان ترجّحه الحكمة والعقل ، ووعدَ الشيطان ترجّحه الشهوة والحسّ من حيث إنّهما يأمران بتحصيل اللذّة الحاضرة ، ولا شك أنّ حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرّأ عن الزيغ ، وحكم الحسّ والشهوة يوقع في البلاء والمحنة . فتعقيب قوله : { والله يعدكم مغفرة } [ البقرة : 268 ] ، بقوله : { يؤتي الحكمة } إشارة إلى أنّ ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة ، وأنّ الحكمة كلّها من عطاء الله تعالى ، وأنّ الله تعالى يعطيها من يشاء .

والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم ، فلذلك قيل : نزلت الحكمة على ألسنة العرب ، وعقول اليونان ، وأيدي الصينيين . وهي مشتقة من الحُكْم وهو المنع لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال ، قال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1 ] ، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس ، حَكَمَة .

ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك ، من سلامة عقله واعتدال قواه ، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له ، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة ، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة ، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير . وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب .

والحكمة قسمت أقساماً مختلفةَ الموضوع اختلافاً باختلاف العصور والأقاليم . ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين ، وعند أهل الصين البوذيين ، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت ، وعند القبط في حكمة الكهنة . ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهُذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين : حكمة عملية ، وحكمة نظرية .

فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس ، وهي تنحصر في تهذيب النفس ، وتهذيب العائلة ، وتهذيب الأمة .

والأول علم الأخلاق ، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية ، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان .

والثاني علم تدبير المنزل .

والثالث علم السياسة المدنية والشرعية .

وأما الحكمَة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال ، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال ، وهي ثلاثة علوم :

علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ .

فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد ، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنَبات والحيوان والإنسان ، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم .

والرياضيّ الحساب والهندسة والهيأة والموسيقى ، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة ( الماكينية ) وجرّ الأثقال .

وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام : معاني الموجودات ، وأصول ومبادىء وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة ، وإثبات واجب الوجود وصفاتِه ، وإثبات الأرواح والمجرّدات ، وإثبات الوحي والرسالة ، وقد بَيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا .

فأمّا المتأخّرون من حكماء الغرب فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات .

والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول :

أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق ، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة .

الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان ، وهو علم الأخلاق .

الثالث تهذيب العائلة ، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل .

الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية ، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية . ودعوةُ الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة .

وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مراداً بها ما فيه صلاح النفوس ، من النبوءة والهدى والإرشاد . وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير ، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة ، وكليات جامعة لجماع الآداب . . وذكر الله تعالى في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى : { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] الآيات . وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال ، كما فعل زُهير في الأبيات التي أولها « رأيت المنايا خبط عشواء » والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته . وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمْثاله ، فكان العرب ينقلون منها أقوالاً . وفي « صحيح البخاري » في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حُصين قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخياء لا يأتي إلاّ بخير ، فقال بُشير بن كعب العدوي : مَكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقاراً وإنّ من الحياء سكينة ، فقال له عمران : أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن صحيفتك " .

والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته ، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته .

وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر ، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان ، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول . وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات . بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين ، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا ، وميّزوا علم الحكمة عن غيره ، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاماً عظيمة وأبقوا كثيراً . وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية ، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية . والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية . وعنهما أخذ أفلاطون ، واشتهر أصحابه بالإشراقيين ، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم ، وسُمّيت أتباعه بالمشَّائين ، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا .

{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة . والخيرُ الكثير منجّر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي ، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها ؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي . وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجّرا من المعارف والعلم بالحقائق ، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعاً في البؤس والشقاء .

وقرأ الجمهور { ومن يؤت } بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب ، على أنّ ضمير يؤت نائبُ فاعل عائد على من الموصولة وهو رَابطُ الصلة بالموصول . وقرأ يعقوب ومن يؤتتِ الحكمة بكسر المثناة الفوقية بصيغة البناء للفاعل . فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائِداً إلى الله تعالى ، وحينئذ فالعائِد ضمير نصب محذوف والتقدير : ومن يؤته اللَّهُ .

وقوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } تذييل للتنبيه على أنّ من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللّب . وأنّ تذّكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللّب وقوته واللّب في الأصل خلاصة الشيء وقلبُه ، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنّه أنفع شيء فيه .