قوله تعالى : { فلولا ألقي عليه } إن كان صادقاً ، { أسورة من ذهب } قرأ حفص ويعقوب أسورة جمع سوار ، وقرأ الآخرون أساورة على جمع الأسورة ، وهي جمع الجمع . قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته ، فقال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أسورة من ذهب إن كان سيداً تجب علينا طاعته . { أو جاء معه الملائكة مقترنين } متتابعين يقارن بعضهم بعضاً يشهدون له بصدقه ويعينونه على أمره .
فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب ? . .
هكذا . من ذلك العرض التافه الرخيص ! أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول ! أسورة من ذهب تساوي أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم ! أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك ، إذ كانت هذه عادتهم ، فيكون الرسول ذا ملك وذا سلطان ?
( أو جاء معه الملائكة مقترنين ) . .
وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر ، تؤخذ به الجماهير ، وترى أنه اعتراض وجيه ! وهو اعتراض مكرور ، ووجه به أكثر من رسول !
وهكذا كقوله : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ{[26078]} مِنْ ذَهَبٍ } أي : وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي ، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد ، { أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } أي : يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه ، نظر{[26079]} إلى الشكل الظاهر ، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه ، لو كان يعلم ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ }
وقوله : فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ يقول : فهلا أُلقي على موسى إن كان صادقا أنه رسول ربّ العالمين أسورة من ذهب ، وهو جمع سوار ، وهو القُلْب الذي يجعل في اليد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَب يقول : أقلبة من ذهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ : أي أقلبة من ذهب .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة والكوفة «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَساوِرَةٌ مِنْ ذَهَب » . وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي ما عليه قَرَأة الأمصار ، وإن كانت الأخرى صحيحة المعنى .
واختلف أهل العربية في واحد الأساورة ، والأسورة ، فقال بعض نحويّي البصرة : الأسورة جمع إسوار قال : والأساورة جمع الأسورة وقال : ومن قرأ ذلك أساورة ، فإنه أراد أساوير والله أعلم ، فجعل الهاء عوضا من الياء ، مثل الزنادقة صارت الهاء فيها عوضا من الياء التي في زناديق . وقال بعض نحويّي الكوفة : من قرأ أساورة جعل واحدها إسوار ومن قرأ أسورة جعل واحدها سوار وقال : قد تكون الأساورة جمع أسورة كما يقال في جمع الأسقية الأساقي ، وفي جمع الأكرع الأكارع . وقال آخر منهم قد قيل في سوار اليد : يجوز فيه أُسْوار وإسْوار قال : فيجوز على هذه اللغة أن يكون أساورة جمعه . وحُكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : واحد الأساورة إسوار قال : وتصديقه في قراءة أبيّ بن كعب «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أساوِرَةٌ مِنْ ذَهَب » فإن كان ما حُكي من الرواية من أنه يجوز أن يقال في سوار اليد إسوار ، فلا مؤونة في جمعه أساورة ، ولست أعلم ذلك صحيحا عن العرب برواية عنها ، وذلك أن المعروف في كلامهم من معنى الإسوار : الرجل الرامي ، الحاذق بالرمي من رجال العجم . وأما الذي يُلبس في اليد ، فإن المعروف من أسمائه عندهم سوارا . فإذَا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالأساورة أن يكون جمع أسورة على ما قاله الذي ذكرنا قوله في ذلك .
وقوله : أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يقول : أو هلا إن كان صادقا جاء معه الملائكة مقترنين قد اقترن بعضهم ببعض ، فتتابَعُوا يشهدون له بأنه لله رسول إليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة على تأويله ، فقال بعضهم : يمشون معا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ قال : يمشون معا .
وقال آخرون : متتابعين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ : أي متتابعين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : يقارن بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ قال : يقارن بعضهم بعضا .
وقوله : { فلولا ألقي عليه } يريد من السماء على معنى التكرمة .
وقراءة الجمهور : «أُلقي » على بناء الفعل للمفعول . وقرأ الضحاك : «أَلقَى » بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل «أساورة » نصباً .
وقرأ جمهور القراء : «أساورة » وقرأ حفص عن عاصم : «أسورة » ، وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد . وقرأ أبي بن كعب : «أساور » . وفي مصحف ابن مسعود : «أساوير » ، ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي ، حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء ، وهو كالقلب ، قاله ابن عباس ، وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به . و : { أساورة } جمع أسوار ، ويجوز أن يكون جمع أسورة ، كأسقية وأساقي ، وكذلك : أساور ، جمع أسوار . والهاء في : { أساورة } عوض من الياء المحذوفة ، لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود ، فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضاً منها ، كما فعلوا ذلك في زنادقة وبطارقة وغير ذلك ، وأساورة : جمع سوار .
لمّا تضمن وصفُه موسى بمَهين ولا يكاد يبين أنه مكذّب له دعواه الرسالة عن الله فرع عليه قوله : { فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب } ترقياً في إحالة كونه رسولاً من الله ، وفرعون لجهله أو تجاهله يخيّل لقومه أن للرسالة شعاراً كشعار الملوك .
و ( لَولا ) حرف تحْضيض مستعمل في التعجيز مثل ما في قوله { وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ } [ الزخرف : 31 ]
والإلقاء : الرمي وهو مستعمل هنا في الإنزال ، أي هلاّ ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب ، أي سَوَّره الرّب بها ليجعله ملكاً على الأمة . وقرأ الجمهور { أساورة } ، وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب { أسورة } .
والأساورة : جمع أُسْوار لغة في سِوَار . وأصل الجمع أساوير مخفف بحذف إشباع الكسرة ثم عوّض الهاء عن المحذوف كما عوضت في زنادقة جمع زِنديق إذ حقه زَناديق . وأما سوار فيجمع على أسورة .
والسوار : حلقة عريضة من ذهب أو فضة تحيط بالرسغ ، هو عند معظم الأمم من حلية النساء الحرائر ولذلك جاء في المثل : لَو ذاتُ سوار لَطمَتْني أي لو حُرّة لطمَتْني ، قاله أحد الأسرى لطمته أمة لقوم هو أسيرهم . وكان السوار من شعار الملوك بفارس ومصر يلبَس المَلِك سوارين . وقد كان من شعار الفراعنة لبس سوارين أو أسورة من ذهب وربما جعلوا سوارين على الرسغين وآخرين على العضدين . فلما تخيّل فرعون أن رتبة الرسالة مثل المُلك حَسب افتقادها هو من شعار الملوك عندهم أمارة على انتفاء الرسالة .
و { أو } للترديد ، أي إن لم تُلْق عليه أسَاورة من ذهب فلتجىءْ معه طوائف من الملائكة شاهدين له بالرسالة .
ولم أقف على أنهم كانوا يثبتون وجود الملائكة بالمعنى المعروف عند أهل الدين الإلهي فلعل فرعون ذكر الملائكة مجاراة لموسى إذ لعله سمع منه أن لله ملائكة أو نحو ذلك في مقام الدعوة فأراد إفحامه بأن يأتي معه بالملائكة الذين يظهرون له .
و { مقترنين } حال من { الملائكة } ، أي مقترنين معه فهذه الحال مؤكدة لِمعنى { معه } لئلا يحمل معنى المَعية على إرادة أن الملائكة تُؤيّده بالقول من قولهم : قرنتُه به فاقترن ، أي مقترنين بموسى وهو اقتران النصير لنصيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال فرعون: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب}: فهلا ألقى عليه ربه الذي أرسله {أسورة من ذهب} إن كان صادقا أنه رسول.
{أو جاء معه الملائكة مقترنين} يعني متعاونين يعينونه على أمره الذي بعث إليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ" يقول: فهلا أُلقي على موسى إن كان صادقا أنه رسول ربّ العالمين أسورة من ذهب، وهو جمع سوار، وهو القُلْب الذي يجعل في اليد...
وقوله: "أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ "يقول: أو هلا إن كان صادقا جاء معه الملائكة مقترنين قد اقترن بعضهم ببعض، فتتابَعُوا يشهدون له بأنه لله رسول إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة على تأويله، فقال بعضهم: يمشون معا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلولا أُلقي عليه أسوِرة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} هذا القول منه يخرّج على وجهين:
أحدهما: إن كان موسى يدّعي المُلك في الدنيا، ويطلبه فهلا أُلقي عليه أساور من ذهب كما يُلقى على الملوك من الأساور والتاج وغير ذلك، وإن كان يدّعي الرسالة بنفسه، فهلاّ كان معه الملائكة مقترنين؟ ولا يزال الكفرة يطلبون من الرسل الآيات على وجه يتمنّونه ويشتهون.
فأخبر أن الآيات ليست تأتي على ما يتمنّون ويشتهون، ولكن على ما أراد الله تعالى.
والثاني: يجمع الأمرين جميعا فيقول: إنه يدّعي الرسالة، والرسول معظّم عند المُرسِل، فيقول: إن كان ما يقول حقا، فهلاّ أُلقي عليه الأساور تعظيما له؟ وهلاّ كان معه الملائكة مقترنين تعظيما له وإجلالا؟...
ثم قال: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب} والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا منهم رئيسا لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة... وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد، وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالا وجاها، فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولا من الله، لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية، والأخس لا يكون مخدوما للأشرف، ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالا وجاها فهو أفضل، وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم {لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم} ثم قال: {أو جاء معه الملائكة مقترنين} يجوز أن يكون المراد مقرنين به، من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا، قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية، والتحلي بحلي الملوك، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله: {فلولا} ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء، عبر به فقال: {ألقي} أي من أيّ ملق كان.
{عليه} من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة.
{أسورة} جمع أسورة -قاله الزجاج، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية، والسوار: ما يوضع في المعصم من الحلية.
{من ذهب} ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات.
{أو جاء معه} أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم.
{الملائكة} أي هذا النوع، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: {مقترنين} أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملأون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه، كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب؟.. هكذا. من ذلك العرض التافه الرخيص! أسورة من ذهب تصدق رسالة رسول! أسورة من ذهب تساوي أكثر من الآيات المعجزة التي أيد الله بها رسوله الكريم! أم لعله كان يقصد من إلقاء أسورة الذهب تتويجه بالملك...
(أو جاء معه الملائكة مقترنين).. وهو اعتراض آخر له بريق خادع كذلك من جانب آخر، تؤخذ به الجماهير، وترى أنه اعتراض وجيه! وهو اعتراض مكرور، ووجه به أكثر من رسول!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإلقاء: الرمي وهو مستعمل هنا في الإنزال، أي هلاّ ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب، أي سَوَّره الرّب بها ليجعله ملكاً على الأمة..
و {أو} للترديد، أي إن لم تُلْق عليه أسَاورة من ذهب فلتجىءْ معه طوائف من الملائكة شاهدين له بالرسالة.
ولم أقف على أنهم كانوا يثبتون وجود الملائكة بالمعنى المعروف عند أهل الدين الإلهي؛ فلعل فرعون ذكر الملائكة مجاراة لموسى؛ إذ لعله سمع منه أن لله ملائكة أو نحو ذلك في مقام الدعوة فأراد إفحامه بأن يأتي معه بالملائكة الذين يظهرون له.