قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله } ، أي : هداهم الله .
قوله تعالى : { فبهداهم } ، فبسنتهم وسيرتهم .
قوله تعالى : { اقتده } ، الهاء فيها هاء الوقف ، وحذف حمزة والكسائي ويعقوب الهاء في الوصل ، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً ، وقرأ ابن عامر : ( اقتده ) بإشباع الهاء كسراً .
قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو } ، ما هو .
{ أُولَئِكَ } المذكورون { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي : امش -أيها الرسول الكريم- خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار ، واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم ، فاهتدى بهدي الرسل قبله ، وجمع كل كمال فيهم . فاجتمعت لديه فضائل وخصائص ، فاق بها جميع العالمين ، وكان سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وبهذا الملحظ ، استدل بهذه من استدل من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أفضل الرسل كلهم .
{ قُلْ } للذين أعرضوا عن دعوتك : { لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : لا أطلب منكم مغرما ومالا ، جزاء عن إبلاغي إياكم ، ودعوتي لكم فيكون من أسباب امتناعكم ، إن أجري إلا على الله .
{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } يتذكرون به ما ينفعهم ، فيفعلونه ، وما يضرهم ، فيذرونه ، ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه . ويتذكرون به الأخلاق الحميدة ، والطرق الموصلة إليها ، والأخلاق الرذيلة ، والطرق المفضية إليها ، فإذا كان ذكرى للعالمين ، كان أعظم نعمة أنعم الله بها عليهم ، فعليهم قبولها والشكر عليها .
( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل : لا أسألكم عليه أجرا . إن هو إلا ذكرى للعالمين )
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله [ ص ] ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم :
( لا أسألكم عليه أجرًا ) . . ( إن هو إلا ذكرى للعالمين ) . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : { أُولَئِكَ } يعني : الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي : هم أهل الهداية لا غيرهم ، { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي : اقتد واتبع . وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمته تبع له فيما يشرعه [ لهم ]{[10954]} ويأمرهم به .
قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سليمان الأحول ، أن مجاهدا أخبره ، أنه سأل ابن عباس : أفي( ص ) سجدة ؟ فقال : نعم ، ثم تلا { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } إلى قوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } ثم قال : هو منهم - زاد يزيد بن هارون ، ومحمد بن عبيد ، وسهل بن يوسف ، عن العوام ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس ، فقال : نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم{[10955]}
وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن { أَجْرًا } أي : أجرة ، ولا أريد منكم شيئا ، { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } أي : يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من العمى إلى الهدى ، ومن الغي{[10956]} إلى الرشاد ، ومن الكفر إلى الإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُوْلََئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرَىَ لِلْعَالَمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : أُولَئِكَ : هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين ، هم الذين هداهم الله لدينه الحقّ ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده واتباع حلاله وحرامه والعمل بما فيه من أمر الله والانتهاء عما فيه من نهيه ، فوقهم جلّ ثناؤه لذلك . فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يقول تعالى ذكره : فبالعمل الذي عملوا والمنهاج الذي سلكوا وبالهدى الذي هديناهم والتوفيق الذي وفقناهم ، اقتده يا محمد : أي فاعمل وخذ به واسكله ، فإنه عملٌ للّه فيه رضا ومنهاج من سلكه اهتدى .
وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله : فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكَافِرينَ أنهم الأنبياء المسَمّوْنَ في الاَيات المتقدمة ، وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك . وأما على تأويل من تأوّل ذلك أن القوم الذين وكلوا بها هم أهل المدينة ، أو أنهم هم الملائكة ، فإنهم جعلوا قوله : فإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِها قَوْما لَيْسُوا بهَا بِكافِرِينَ اعتراضا بين الكلامين ، ثم ردّوا قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ على قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتَابَ والحُكْمَ والنّبُوةَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحاق وَيَعْقُوبَ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يا محمد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال بن زيد ، في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ يا محمد ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ولا تقتد بهؤلاء .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أُولَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الاَية : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .
ومعنى الاقتداء في كلام العرب بالرجل : اتباع أثره والأخذ بهديه ، يقال : فلان يقدو فلانا إذا نحا نحوه واتبع أثره ، قِدَةً وقُدْوَةً وقِدْوَة وقِدْية .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى للْعَالمِينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكرهم بآياتي أن تَبسل نفس بما كسبت من مشكري قومك يا محمد : لا أسألكم على تذكيري إياكم والهدى الذي أدعوكم إليه والقرآن الذي جئتكم به ، عوضا أعتاضه منكم عليه وأجرا آخذه منكم ، وما ذلك مني إلا تذكير لكم ولكلّ من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل بأس الله أن يحلّ بكم وسخطه أن ينزل بكم على شرككم به وكفركم ، وإنذار لجميعكم بين يدي عذاب شديد ، لتذكروا وتنزجوا .
{ أولئك الذين هدى الله } يريد الأنبياء عليه الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم . { فبهداهم اقتده } فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها ، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بها جميعا . فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله ، والهاء في { اقتده } للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف ، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام . { قل لا أسألكم عليه } أي على التبليغ أو القرآن . { أجرا } جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين ، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه . { إن هو } أي التبليغ أو القرآن أو الغرض . { إلا ذكرى للعالمين } إلا تذكيرا وموعظة لهم .